يستحق صادق جلال العظم، الكاتب والمفكر السوري، ان نحتفي قبل ومع إحتفاء الالمان به هذا الاسبوع في مدينة فيمار، ويُمنح بها في إحتفال مهيب في قلعتها ميدالية الشاعر الالماني الكبير «غوته»، ابن مدينة فيمار واحد اهم مشاهيرها. ليس هذا غريبا على قلم العظم الذي اجترح الشجاعة وسار ضد التيار ولم ينجرف وراء الادلجة الشعبوية طيلة سنوات طويلة من الكتابة والفكر. لم يتوقف هذا العقل المفكر عن الانتاج والسجال وخوض معارك التحديث والنقد طيلة نصف قرن. وفي الحظات شديدة الاختبار التي يواجهها كل مثقف وكاتب، وتضغط عليه اصناف الإكراهات والمساومات العديدة، وقف العظم مع ضميره الفكري، وصرح عنه من دون مواربة. في نقده للهزيمة («النقد الذاتي بعد الهزيمة») نفض الكسل التحليلي التآمري الذي كان (ولا زال) يلقي باللائمة على الغرب والآخرين ويعلق على مشجب الخارج كل الهزائم والتخلف الذي نرتع فيه. في نقده لسيطرة الدين على الفضاء العام وتفشي «ذهنية التحريم» كسر الخطوط الحمر وقدم نقدا من داخل منظومة العقل الديني. وفي نقده لنمط آخر من الكسل الفكري انتجته مقولات «الاستشراق» الإدوارد سعيدية، قال ان شطب عمل الاستشراق والمستشرقين دفعة واحدة، وهو النتيجة التي لم يردها او يدعو اليها سعيد اساساً، يعني تعزيز فكر المؤامرة، وتوفير عتاد رخيص وكسول للفكر الرجعي والظلامي كي يتمترس وراءه في نقد كل شيء له علاقة بالغرب. إنه «استشراق معكوس» بحسب عنوان مقاربته في نقد «الاستشراق» لسعيد. وعندما يتعلق الامر بحرية الفكر والتفكير والنقد ينطلق العظم ليقف في النقطة القصوى من الحريات، وليكون ذات تاريخ واحدا من الاسماء العربية النادرة التي وقعت بياناً ادان فتوى الخميني الداعية لقتل الكاتب الهندي البريطاني سلمان رشدي.
لم تتكلس ثقافة العظم عند القناعات اليسارية التي ظلت تشكل الدافعية الاخلاقية والانسانوية في مقارباته، ولم يقع اسيرا لايديولوجيا تتجمد عند مقولاتها او حتمياتها ولا تعترف بحركة التاريخ. بل عن اليسار العربي نفسه يقول العظم انه تفرع بعد عقود طويلة الى ثلاث مجموعات، احدها البقية الباقية من الاحزاب الماركسية العربية التي تفتت الى درجة قريبة من الاختفاء، وثانية احتفظت ببرامج احزاب ماركسية الحرب الباردة واقتربت في العقدين الاخيرين من الاسلام السياسي الجهادي، وثالثة وهي الاكثر عددا والاوسع حضورا تراجعت الى خط الدفاع الثاني نحو احياء المجتمعات المدنية وتبني خطابات ديموقراطية في مواجهة المد الاصولي والرجعي. وكذا يرى العظم الاسلاموية السياسية التي تتفرع بدورها الى اسلام سياسي تستغله الدول واخر تستغله التنظيمات، وساهم ذلك كله في انبعات الطائفية والتعصب.
فرح العظم بالربيع العربي واحتفى به فكريا ووجدانيا وسياسياً، حيث رأى فيه عودة السياسة الى الناس وعودة الناس الى السياسة بعد عقود طويلة من الجمود والاستبداد. رفض الاستقرار الظاهري الذي يتفاخر بإحلاله الاستبداد واسماه «استقرار القبور». رأى في لحظة «ميدان التحرير» عودة التاريخ الى المنطقة، وظل متفائلا حتى اللحظة، وبرغم كل السوداوية التي هبطت على الثورة الاقسى في بلاده سورية. وعن سورية نفسها كتب ونطق بأجرأ ما قد ينطق به مثقف في موقعه، وعبر عما كان يجول في عقول الكثيرين لكن الخشية من الاتهام بالطائفية اسكتتهم. وعبر في محاضرة شهيرة له عما اسماه «العلوية السياسية» والتي تعني وقوع سورية الطويل في قبضة نظام اشتغل على إعادة انتاج البلد العريق وفق نظام اعتمد الطائفية العلوية وقوض بها الاكثرية السنية، واستأثر بالحكم، والاقتصاد، والمال، والامن عبر فئة زبائنية اقلوية.
انتقد العظم التوجهات الغربية التي تصاعدت بعد الثورة السورية بزعم الدفاع عن الاقليات في سورية، وقال ان سورية وتاريخها لم يشهدا اي حروب اهلية اثنية او طائفية تستدعي هذا النفير المزيف للدفاع عن الاقليات، وكأن الاكثرية السنية تنتظر اللحظة السانحة لتبطش بالجميع. على العكس من ذلك، قال ان الشريحة الاعرض التي واجهت ولا تزال تواجه الحد الاقصى من القتل والدم والتهجير والتدمير هي الاكثرية السنية. لأي كان ان يختلف مع العظم في تحليله وتقديمه لمفهوم «العلوية السياسية» وان يوجه له النقد على ذلك ويناقشه، لكن تجاوز الاختلاف والنقد المقبول الى الاتهام بالطائفية والشحن الطائفي، كما حملت بعض الردود على العظم بسبب فكرة «العلوية السياسية» يتحول الى نكتة سمجة. يقف العظم في ارضية انسانوية صلبة متجاوزة للاثنيات والطوائف والاديان، ومن يحشره في «الطائفة السنية السورية» يكشف ضحالة الوعي تثير التساؤل حول مدى الفهم والإدراك العميق عند مُطلق الاتهام.
في سنوات الهزيع الاخير من القرن الماضي وبدايات القرن الحالي انخرط العظم في السجال العريض حول العولمة، وكان من المفكرين العرب القلائل الذين اثارتهم هواجسها، ومنحنياتها، وتهديمها للحدود القومية، وتسويتها الارض لإرتحال رأس المال بلا قيود، ومعه انماط وقيم وحيوات جديدة. كان من اوائل من لاحظوا ان الجوهري في العولمة الحديثة وما يجعلها مفترقة عما سبقها من عولمات هو في ارتحال مراكز الانتاج، وليس ارتحال رأس المال فحسب. رأس المال لم يتوقف عن التعولم منذ ان عرف البشر السفر: من طريق الحرير، الى الممرات البحرية التي طافت حول القارة السمراء، ثم وصولا الى العالم الجديد كانت التجارة هي المعولم (السلمي) الاساسي للعالم، الى جانب الحرب معولمه العسكري. في العولمة الغربية التي تفاقمت بعد انهيار الحرب الباردة تعولمت مراكز الانتاج رغم ان معظمها بقي غربي المركز والسيطرة. صارت الرساميل الغربية تنتج في آسيا وافريقيا وغيرها، بينما مقراتها الاساسية في الغرب.
بين فيمار وبرلين تولدت اللحظة اللوثرية التقدمية في الغرب، والتي ارادت تحرير الفرد من هيمنة الكهنوت الكاثوليكي. ترافقت لحظة الصعود تلك مع لحظة ارتكاس حاد في العالم الاسلامي وفي فهم الدين. يمكن ان نقول ان اللحظتين اختطا اتجاهين متعاكسين تماماً، حيث تكرست في الفضاء الاسلامي كاثوليكية اسلاموية، هي الاب الروحي للسلفيات المعاصرة، عبر اكمال هيمنتها على الفرد. مارتن لوثر اراد ان يحرر الفرد في علاقته مع الله، في تحد كبير للمؤسسة الكنسية الدينية، في حين ان الفرد في العالم الاسلامي كان يزداد خضوعا لسيطرة المؤسسة الدينية التي كانت قد اختطفت المباشرة بين الفرد والله، وقطعت طرق التواصل المباشر معه. اللحظة اللوثرية كانت تنهي المسيحية السياسية، واللحظة المناظرة لها عندنا كانت تؤسس للإسلام السياسي اللاحق. العظم يرى في هذا الاخير كارثة على السياسة والدين، ويدعو الى لحظة لوثرية تعلي من شأن التدين العفوي والشعبي الذي حفل بالتعايش والابداع طيلة قرون مديدة.
أفشة يثير الجدل برسالة غاضبة عن وفاة إيهاب جلال
12 سبتمبر 2024