في ظل قرار محكمة العدل العليا الاسرائيلية في قضية عقارات باب الخليل وجدت لزامًا عليّ كعربي أرثوذكسيّ وكمحام مختصّ ــ ولا فخر ــ في قضايا العقارات والاوقاف، أن اطرح القراءة السليمة في نظري للقرار وأرفض علانية الحملات الإعلامية وتصريحات بعض المحامين التي تتّهم بطريركية الروم الارثوذكس بالتقصير في مرافعاتها القضائية في المحاكم في هذا الملف، والادّعاء السطحيّ بأنّ نتيجة المحكمة كانت ستكون غير ذلك لو كان أداء البطريركية في المحكمة مغايرًا، مستشهدين بذلك بقرار محكمة العدل العليا نفسه، وكأنّ الاجراءات القضائية الخاصة بالاوقاف والعقارات الارثوذكسية بريئة ونزيهة، أو أنّها لا ترتبط بسياسة الاستيطان في القدس والاراضي الفلسطينية المحتلة! أهدف بمقالتي هذه أن أوضّح ان قرار المحكمة هو تطبيق لسياسة مدروسة يتّبعها القضاء الاسرائيلي تجاه الكنيسة الأرثوذكسية من أجل إفراغها من سيادتها ونزع سلطتها على عقاراتها وأوقافها، وذلك لتحقيق مآرب ومطامع سياسيّة واستيطانيّة ستفضي في نهاية المطاف الى تفتيت الكنيسة الارثوذكسية وضرب الوجود المسيحي في القدس وفي البلاد عامة، كما أنّ القرار هو حالة أخرى تدلّ على حماية القضاء الاسرائيليّ لسياسة الاستيطان في القدس الشرقيّة والضفة الغربيّة وتشريعها ضاربًا بذلك عرض الحائط كل القوانين والمواثيق الدولية التي تعتبر القدس أرضًا محتلّة وتحظر على اسرائيل كقوة محتلّة أن تغيّر الوضع القائم فيها. ومن هذا المنطلق أشيد ببيان بطاركة ورؤساء كنائس القدس الذين نددوا بهذا القرار لِما فيه من مخاطر على الوجود المسيحي في القدس، وأشيد كذلك بالبيان الذي اصدرته اللجنة الرئاسية العليا لشؤون الكنائس برئاسة الدكتور المعروف رمزي خوري ، وهو الموقف الصحيح والعميق والمطلوب من كل وطنيّ غيور على الوجود المسيحي والفلسطيني.
ورغم أنّ ادّعاء التقصير الموجه للبطريركية ظالم وغير دقيق بالمرة، لأنّ المحكمة نفسها نوهت في قرارها الى الثغرات والعلامات الغربية في هذه الصفقة المزعومة وكانت هذه العلامات وحدها كافية لابطال الصفقة وفي أقل تقدير لبحث الملف مجددا في المحكمة المركزية، ورغم أنّ هذا الادّعاء بالتقصير يُثار بعد صدور القرار فقط لنسأل أين كان المنتقدون والمنظّرون حينما كانت المعركة القضائية في أوجها، ما كانت المحكمة العليا في نظري لتصدر قرارًا يبطل هذه الصفقة المشبوهة حتى لو أن البطريركية استدعت كل الشهود وقدّمت كل البينات. لأن دراسة شاملة وعميقة لقرارات المحاكم الاسرائيلية فيما يخص قضايا أوقاف الكنيسة الارثوذكسية تؤكّد بما لا يقبل الشك من جهتي ، أنّ القضاء الاسرائيلي ينكر بشكل ممنهج ومدروس سيادة الكنيسة الارثوذكسية على أوقافها وأملاكها، وينكر حرمتها وأنظمتها الكنسية الداخلية المتّبعة فيها بشكل تعسفي وجائر، وذلك كي تنفّذ دولة اسرائيل المشاريع الاستيطانية والتهويدية من جهة، ولتثير النزاع والفتنة بين البطريركية ورعاياها العرب تحديدًا من جهة أخرى. والغاية على المدى الطويل هي تفتيت الكنيسة الارثوذكسية وتقويض البطريركية كمؤسسة وككيان، وبفعل ذلك إضعاف الطائفة الارثوذكسية ووجودها في البلاد. هذا يعني أنّ القواعد والأسس القضائية التي تبني المحاكم الاسرائيلية عليها تعاملها مع الكنيسة الارثوذكسية كانت لا محالة ن ستنتهي بما انتهت إليه في تصديق صفقة باب الخليل الفاسدة مهما بذلت بطريركية الروم الارثوذكس من جهد قانوني. مع ذلك كانت البطريركية مضطرة للترافع أمام القضاء الاسرائيلي ليس من باب الإيمان المطلق بعدالة ونزاهة المحاكم، إنما كمسار متاح أمامها لإبطال الصفقة أو تعويقها إلى جانب مسارات أخرى تقوم بها البطريركية في الأُطر الكنسية والشعبية المحليّة والدوليّة.
أبني موقفي هذا على أسس كثيرة أذكر منها ههنا من باب الايجاز لا الحصر الامور التالية:
أولا، اذكر انه حين اعترفت الفرمانات العثمانية بسيادة بطريرك الروم الارثوذكس على الاوقاف والاديرة والعقارات التابعة للكنيسة الارثوذكسية، أصدرت المحاكم الاسرائيلية في السنوات الاخيرة أكثر من قرار أنكر على بطريركية الروم الارثوذكس سيادتها على أوقافها وأملاكها، بل وأنكر وقفية عقاراتها في حالات عديدة في القرى والمدن داخل الخط الاخضر ووهب السلطة على هذه العقارات لاجسام لا تملك صفة قانونيّة شرعيّة. وقد خلقت المحاكم بذلك، وبشكل مقصود في نظري، بلبلة وفوضى كبيرة في كل ما يتعلق بتسجيل عقارات الكنيسة وذلك حتى يسهل تخريبها والسيطرة عليها بطرق ملتوية. إن قرار محكمة العدل العليا الاخير هو خير دليل على هذه السياسة حينما فرضت المحكمة على البطريركية صفقة باطلة لم يوقعها البطريرك، أو المجمع المقدس، بل هي صفقة كانت عقدتها الجهات الاستيطانية بالخفاء وبشكل فاسد مع شخص انتحل صلاحية التوقيع على صفقات عقارية باسم البطريركية. ولو كانت المحكمة الاسرائيلية تحترم سيادة البطريركية وحرمتها لَما كانت تفرض عليها رغم أنفها صفقة تخص أهم العقارات الارثوذكسية، ودون أن تكترث المحكمة الى أنّ البطريركية كانت عزلت فور نشر الصفقة ذاتها بطريركا (البطريرك ايرنيوس سابقا) وهو ما اعتبر سابقة في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية.
ثانيا، لا تتعامل المحاكم الاسرائيلية مع بطريركية الروم الارثوذكس كمؤسسة كنسية لها تاريخها، ولها سيادتها وقوانينها وأنظمتها وحرمتها، بل تتعامل معها كجسم خاص شأنه شأن اي شخص او شركة يكونان أمامها طرفا في نزاع ما.
وتخضع المحاكم البطريركية بشكل كامل للقانون الاسرائيلي ولأصول المحاكمات الاسرائيلية والتي لا تتماشى في أمور كثيرة مع قوانين وتقاليد الكنيسة الارثوذكسية. تمثَّل هذا الجانب أيضًا في قرار قضية باب الخليل حينما رفضت المحكمة ادعاء البطريركية أنّ الصفقة الفاسدة لم تحظ بموافقة المجمع المقدس وهي الموافقة التي يفرضها قانون البطريركية كشرط لصحة أيّة صفقة عقارية ولتنفيذها. بل إنّ المحكمة العليا قررت ألا تقبل هذا الادعاء طالما لم تكشف البطريركية للمحكمة كتاب المجمع المقدس، مع أن كتاب المجمع المقدس حسب التقليد الكنسي سريّ وداخليّ ويحظر على البطريركية كشفه، وقد قدمت البطريركية بهذا الخصوص تقارير مهنية لخبراء في القانون الكنسي، ولكنّ المحاكم الاسرائيلية لم تقبلها. وقد نوهت سابقًا بأني أجد في موقف المحاكم هذا ابتزازًا قضائيًا للبطريركية إذ اصبح كل فريق يودّ أن يلزم البطريركية باتفاقية فاسدة لم يصادق عليها المجمع المقدس أن تقوم بالضغط على البطريركية أن تكشف قرارات المجمع عالمـــًا من قبل أنها لن تقبل بذلك! وهكذا ينجح الفريق المذكور بالحصول على قرار يقضي بأن اتفاقيته قانونية، وإن كانت فاسدة وباطلة فعلاً، وبهذا تلزم البطريركية باتفاقيةً باطلة لم تبرمها أصلًا. وهل كان القضاء الاردني او الفلسطيني يحكم بنفس الطريقة لو طرحت أمامهما على سبيل المثال قضية طالبت بها البطريركية بابطال صفقة فرضت عليها، وأن يلزما البطريركية بهذه الصفقة رغمًا عنها ودون احترام سيادتها وحرمتها واوقافها؟! بالطبع لا!
ثالثا، إنّ قرار المحكمة الأخير يمثل استهتار القضاء الاسرائيلي بمبدأ "الوضع الراهن" للكنائس والاماكن المقدسة (ستاتيكو Status Quo) وهو من أهم وأقدم المبادئ التي تنظم العلاقات بين الكنائس من جهة، وبين الكنائس والسلطة الحاكمة من جهة أخرى. إنّ احترام الوضع الراهن- الستاتيكو كان منذ القدم واجبًا التزمت به السلطات الحاكمة المتعاقبة على فلسطين، ويهدف هذا المبدأ الحفاظ على سيادة وسلطة كل كنيسة، وعلى حدود صلاحياتها وعلى حرمتها، وفق الفرمانات والأوامر العثمانية التي تعترف بها الدولة الحاكمة. وعليه حين تمنح المحكمة عقارات كنسية لمجموعة استيطانية تهدف الى تغيير الوضع القائم في القدس المحتلة بالرغم من اعتراض الكنيسة، فإنّ المحكمة تلغي بذلك كلّيًّا مبدأ الستاتيكو. هذا جانب خطير جدًا لأننا بذلك نشاهد بأم أعيننا قتلًا بطيئًا لمبدأ الوضع الراهن إلى درجة تغييبه تمامًا، وهذا يحمل معه خطرًا جسيمًا على كل الكنائس في القدس والبلاد المقدسة.
رابعا، تدرك دولة اسرائيل أنها إن اعترفت بسيادة الكنيسة الارثوذكسية على أملاكها، وأنها إن تعاملت معها كمؤسسة كنسية لها قانونها وحرمتها ونظامها الداخلي الخاص، فانها لن تستطيع السيطرة على الاوقاف الأرثوذكسية، ولن تستطيع وقتئذ تنفيذ مشاريعها الاستيطانية والتهويدية في القدس والأراضي الفلسطينية المحتلة وداخل الخط الأخضر.
خامسا، انّ هذا التعامل القضائي مع الأوقاف الارثوذكسية لا يختلف كثيرًا عمّا تنتهجه حكومة اسرائيل والمحاكم الاسرائيلية ضدّ الاوقاف الإسلامية أيضًا. أذكر في هذا الشأن على سبيل المثال تنكّر القضاء الإسرائيلي لسيادة وسلطة المجلس الإسلامي الأعلى في فلسطين على أوقاف المسلمين، واعتبار كل الاراضي التي كانت مسجّلة على اسم المجلس الإسلامي الأعلى قبل قيام دولة اسرائيل "أملاك غائبين" حسب القانون الاسرائيلي، ومن ثَمَّ تحويلها لصالح الجهات الاستيطانية. كما أنّ المحاكم الاسرائيلية لم تحترم قدسية وحرمة الاوقاف الاسلامية حين صادقت أكثر من مرة على مشاريع عمرانية واستيطانية على المقابر الاسلامية والجوامع، وأبرزها قرار المحكمة العليا الاسرائيلية المصادقة على مشروع متموّل أمريكي يهودي بناء متحف ضخم في مقبرة مأمن الله في القدس، وتدنيس المقبرة وإخلاء القبور منها. يتمثل ذلك ايضا بالمحاولات الأخيرة للسيطرة على مقبرة الاسلامية في يافا، وعلى الاوقاف الاسلامية في طبريا وبئر السبع وغيرها!
سادسا، لا يمكن ان نقرأ قرار المحكمة العليا بمعزل عن سياسات الاستيطان في الضفة وفي القدس الشرقية، وخاصة في السنوات الاخيرة حين تعمل دولة اسرائيل بكل ما اوتيت من قوة من أجل إحكام قبضتها على القدس الشرقية، وذلك لمنع حلّ الدولتين واستقلال دولة فلسطين على حدود عام 1967. ومع أنّ القانون الدولي، ممثّلا بقرارت مؤسسات الامم المتحدة ، وبقرار المحكمة العليا الدولية في قضية جدار الفصل العنصري، يعتبر القدس الشرقية أرضًا محتلة، صادقت المحكمة العليا مرة تلو المرة وفي السنوات الاخيرة خاصة على مشاريع استيطانية في القدس الشرقية رغم اعتراض المواطنين الفلسطينيين في القدس ومنها على سبيل المثال في سلوان والشيخ جراح والبلدة القديمة.
سابعا، علينا ألّا نقرأ قرار المحكمة العليا بمعزل ايضا عمّا تمارسه إسرائيل تجاه الوجود المسيحي الفلسطيني في القدس والضفة الغربية، حينما صادقت المحاكم الاسرائيلية على مشاريع واسعة صادرت أراضي المسيحيين الواسعة في منطقة بيت جالا وبيت لحم وبيت ساحور وذلك لبناء المستوطنات الاسرائيلية مثل "جيلو" و"هار حوما" و"هار جيلو" وغيرها. كما أنّ المحكمة العليا صادقت على اقامة جدار الفصل العنصري في منطقة بيت جالا وبيت لحم وبيت ساحور الذي ابتلع هو أيضًا مساحات واسعة من اراضي المواطنين المسيحيين والكنائس المسيحيّة. كما أنّ الجدار الفاصل قد حوّل هذه المدن الى سجون مغلقة، ووضع المواطنين أمام واقع مرير يستحيل احتماله ممّا دفع مئات العائلات المسيحيّة الى الهجرة خارج البلاد بحثًا عن فرص عمل وحياة كريمة، وهو ما اعتبره ضربة قاصمة للوجود المسيحي الفلسطيني.
علينا إذن ألّا ننظر للقضية بالمنظار القضائي الطاهر فحسب او نبني موقفنا على ما جاء في قرار المحكمة فقط، بل علينا ان نقرأ ما هو ابعد من القرار وسطوره، وأن نعي جيدا أننا إزاء قضية سياسية تمسّ كيان ومكانة الكنيسة الارثوذكسية، وتمسّ الوجود المسيحي الفلسطيني عامة. وعليه إننا حين نؤازر البطريركية في معركتها مع المستوطنين وفي مواجهتها لمحاولات الابتزاز والاختراق، لا ندافع عن الافراد والاشخاص بل عن الكيان والوجود المسيحيّ كاملاً، ذلك أنّ بطريركية الروم الارثوذكس هي أم الكنائس وهي مؤسسة دينية عريقة وأساسيّة لدى المسيحيين في البلاد المقدسة. وكما لا ينبغي أن يؤذي الابن أمّه أو أباه ولو أساءا معاملته عن قصد أو عن غير قصد كذا علينا نحن أبناء الكنيسة ألا نؤذي البطريركية ونشهّر بها ان أساءت أو زلّت بل علينا ان نعينها على تصويب طريقها حفاظا على وجودنا وكياننا وكي تبقى الكنيسة صامدة أمام مخططات التسريب والاحتلال التي تتربصها. وغير ذلك يكون إضعافًا لها ومؤازرة لأعدائها من حيث نعلم ولا نعلم، ومن حيث إن القضية هنا خطيرة جدًّا وأكبر بكثير من المناكفات والاتهامات. لهذا أدعو مجدّدًا كل أبناء الطائفة الأرثوذكسية في البلاد وكل الكنائس في العالم وكل القوى والدول الحريصة الوجود والحضور المسيحي والفلسطيني في القدس والبلاد المقدسة أن يتوحّدوا لإنقاذ العقارات المسيحيّة والوجود المسيحي من مخططات الاحتلال والتهويد، والابتعاد في سبيل ذلك عن أسلوب التخوين والتذنيب الذي لن يؤدي الى انقاذ العقارات بل الى تعزيز الانشقاق بين الكنسية الارثوذكسية ورعاياها في البلاد وهو ما تسعى اليه دولة اسرائيل منذ سنين لان هذا الانشقاق لا يخدم الا مصالحها.