ورشة المنامة: حكاية من الماضي

عاطف أبو سيف.png
حجم الخط

عاطف أبو سيف

تمخض الجبل فولد فأراً. على الرغم مما قد يوحيه المثل السابق من مولد الفأر، إلا أن ورشة المنامة لم تكن جبلاً، ولا يمكن أن تقاس بأي حال كذلك. فهي ولدت فاشلة وستموت وتقبر كما ولدت؛ لأن شيئاً لا يريده الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يمر. ليس في الأمر من بطولة أو ادعاء لكنه انتصار لقانون الطبيعة الذي يجعل الأشياء وليدة ذاتها. ولأن حكمة الحياة أن أحداً لا يمكن أن يقرر مصير آخر رغماً عنه مهما أوتي من قوة أو تملّك من مصادر ضغط، فالشعوب لا تقهر حتى وإن تعرضت للحظات عصيبة ومورست بحقها سياسات مجحفة ومؤلمة. وعليه فالفأر الذي ولد لم يكن إلا نتيجة طبيعية لكومة الرمل التي مثلتها المبادرة الأميركية. كومة رمل تنقشع مع الريح وتصير كما يقول عنوان الرواية الشهير: ذهب مع الريح. 
عموماً، إن ما يجري ليس إلا استمراراً للمحاولات الفاشلة لتفريغ القضية الوطنية الفلسطينية من محتواها ومكوناتها وتحويلها إلى مجرد أزمة إنسانية. ويمكن مراجعة التاريخ الطويل لتلك المحاولات منذ اليوم التالي لوقوع النكبة، حين تم العمل على تصوير اللاجئين الفلسطينيين على أنهم مجرد نتيجة عرضية لصراع وحرب تمت بين دول وبالتالي إسقاط حقوقهم السياسية وتقديم حاجتهم المعيشية على تلك الحقوق. وكانت الاستجابة الشعبية برفض كرت المؤن لا بوصفه حقاً، لكن بوصفه تعويضاً، ثم توالت المشاريع التصفوية التي هدفت إلى الالتفاف على الحقوق الفلسطينية من مشاريع التوطين التي خرجت جماهير شعبنا ضدها في مسيرات كبيرة، إلى روابط القرى، ومن ثم الانقسام وتفتيت الحالة الفلسطينية. 
قائمة طويلة لا تنتهي ولا يمكن التوقع أنها ستنتهي حتى يزول الاحتلال وتعود الحقوق إلى أصحابها ويعودوا إلى بلادهم. وطوال كل تلك المشاريع كان العالم يبخل على الفلسطينيين بموقف مساند، بموقف يقول إن لهم حقوقاً يجب الاعتراف بهم. كان حجم المؤامرة أكبر من مجرد توصيفه بذلك، حيث الصمت المهيب أمام بشاعة جرائم النكبة ومحاولات تصفية الوجود الفلسطيني من بلادهم، وحيث تمكين الغرباء من الأرض والاعتراف بكيانهم حديث العهد والتنصل من الحقوق الفلسطينية والوجود الفلسطيني. لم يكن ثمة خطأ في التاريخ أكثر بشاعة مما حدث. حتى يمكن التأكد من أن بعض الدول تم منحها الاستقلال قبل أشهر من التصويت على قرار التقسيم المشؤوم؛ من أجل ضمان تمرير القرار الذي كان القصد منه في الأساس الشق المتعلق بإقامة دولة لليهود في فلسطين، فيما الجزء المتعلق بالفلسطينيين وحقوقهم ليس إلا من ضرورات القرار التي لا تستوجب التنفيذ. وأيضاً تم تفعيل الكثير من المواد والنصوص التي كان الهدف منها صون هذا الشق اليهودي في القرار. مؤامرة كانت تستهدف كل شيء يتعلق بفلسطين حتى ينتهي الوجود الفلسطيني ويذوب في المحيط ويندمج اللاجئون في عالمهم العربي وتتوه القضية ولا يبقى إلا الدولة المقامة قهراً على أحلامهم. 
لم يحدث هذا. صحيح أن البلاد تم سرقتها واقتلاع الكثير من أهلها وتشريدهم وتحويلهم للاجئين، لكن هذا لم يعن انتهاء قضيتهم. الأساس كان تصفية القضية. عدم وجود قضية. العمل على تحويلها إلى مجرد حقوق إنسانية لبعض ضحايا الفعل الكارثي والذي يصار إلى تصويره بالبطولي المتمثل بإعادة سرقة فلسطين. وهذا لم يحدث وفشلت كل المشاريع الجانبية والخطط التي عملت على هدم مكونات القضية الفلسطينية. صحيح أن المجتمع الدولي كان وما زال عاجزاً عن إجبار الدولة التي سرقت أحلام الفلسطينيين على وقف انتهاكاتها بحقهم وبإعادة حقوقهم إلا أن الشعب الفلسطيني بإرادته وإصراره نجح في وقف الانهيار بمنظومة حقوقه المسروقة. فقط عبر تلك الإرادة فشلت كل المؤامرات وستفشل كل المؤامرات اللاحقة.
لم تكن القصة يوماً قصة مال وحياة أفضل، بل كانت دائماً حكاية وطن، وعليه لم تنجح كل المحاولات السابقة لحرف بوصلة الكفاح الوطني الفلسطيني أو تقزيم حقوقه، حتى حين تم تبني البرنامج المرحلي كان ينظر له بوصفه عتبة أولى تجاه إنجاز الحقوق وطريقاً لا بد منه من أجل تحصيلها والمراكمة عليها. بعبارة أخرى النجاح الكبير الذي حققه الشعب الفلسطيني طوال مسيرة كفاحه الوطني تمثل بالإبقاء على الصراع بعدم التسليم بنهايته أو تصفيته. فقط عبر وجود القضية الوطنية حية تظل الحقوق محفوظة في عهدة المستقبل. هذا وحده فقط يعيدها. وعليه فليس غريباً أن تظل المشاريع الالتفافية تعمل جهدها من أجل إزالة مكونات القضية حتى تزول الحقوق. 
وبدلاً من تصحيح الخطأ التاريخي الذي تآمر العالم وتواطأ مع الغزاة في إيقاعه وسفك دماء شعبنا تطلق إدارة ترامب مشروعاً جديداً تحاول فيه إغراء، ليس الشعب الفلسطيني الذي يعرف الطريق جيداً، بل الجوار العربي الذي أنهكته أزمات الربيع العربي ومزقته. الخطأ التاريخي الذي يتوجب على العالم تصحيحه يصار إلى محاولة تعميقه وإزالة آثاره من خلال تجاوز الحقوق الفلسطينية وجعلها نسياً منسياً. ولو كان الشعب الفلسطيني يخامره شك حول أدنى حقوقه وهي كلها سامية لما انتظر كل تلك السنوات من الظلم والقهر والتعذيب لكان سلّم مبكراً بالأطروحات الاقتصادية والمعيشية، لكنه يدرك أن القصة قصة وجود على هذه الأرض، قصة كفاح من أجل التاريخ والحاضر والمستقبل.
ستجري مياه قليلة وكثيرة تحت الجسر وستمضي ورشة المنامة كما مضت كل المقترحات التصفوية التي قبلها، وستظل حقوق شعبنا عهدة في يد القدر بانتظار التحقيق. لا شيء يغير هذه الحقيقة الأزلية التي هي مثل الجبل الفلسطيني لا تهزها أعتى الرياح. أما ورشة المنامة فستظل حكاية قديمة عن محاولة فاشلة لتزوير الحقائق حول ما يحتاجه الفلسطينيون وما هي حقوقهم التي كفلها لهم التاريخ والقانون والطبيعة. ككل المحاولات السابقة الفاشلة التي تعثرت أمام المواقف الفلسطينية التي تعرف البوصلة واتجاهها، فإن تلك الورشة ستجد سطراً باهتاً في كتب المؤامرات.