العرب، ترامب، إسرائيل، الفلسطينيون.. (1-4)

حسن خضر.jpg
حجم الخط

حسن خضر

أهم التحوّلات الحاسمة، بعد نجاح الثورة المضادة في دحر الموجة الأولى للربيع العربي، وما نجم عنها من إرهاب وحروب أهلية، وانهيار مجتمعات وتفكك دول، أن مركز الثقل في الشرق العربي انتقل من المثلث المصري ـ السوري ـ العراقي إلى السعودية والخليج.
 وكما فعل المركز السابق، الذي حاول، ثقافياً وسياسياً واجتماعياً، تشكيل العالم العربي على صورته، فإن المركز الجديد يحاول تشكيل العالم العربي على صورته. وفي الحالتين لا تكون المحاولة سلمية، بالضرورة، وفي كل الأحوال، وتُستخدم فيها أدوات فوق الطاولة وتحتها. المحاولة في نظر القائمين عليها رهان مصيري.
يمكن العودة بمُسببات وبداية وتجليات الانتقال إلى عقود طويلة مضت، والأرجح إلى هزيمة حزيران. وهذا لا يعنينا الآن، فما يعنينا يتمثل في تشخيص السمات العامّة للمركزين القديم والجديد. ولعل من أبرز سمات المركز القديم، وعلاماته الفارقة، النزعة الجمهورية، وأيديولوجيا العداء للإمبريالية. فيه تبلورت السياسات والقضايا القومية الراديكالية، بما فيها، وعلى رأسها، المسألة الفلسطينية. وقد تعرّض للتهشيم منذ سبعينيات القرن العشرين، نتيجة عوامل داخلية وخارجية أوصلته، مجتمعة، إلى ما هو عليه الآن.
وبما أن الشيطان في التفاصيل، كما يُقال، فلا معنى للكلام عن النزعة الجمهورية، وأيديولوجيا العداء للإمبريالية في معزل عن الميراث الحضري والحضاري لأضلاع المثلث القديم، وميراث عصر التنوير الأوروبي والعربي، والصراعات العسكرية والأيديولوجية الكبرى بعد انهيار العالم الإمبراطوري القديم في الحرب العالمية الأولى، وثورة البلاشفة في روسيا، وصعود النازية والفاشية، ومُخرجات الحرب العالمية الثانية، وانقسام العالم إلى معسكرين، وصعود حركة التحرر القومي في المستعمرات.
أما مركز الثقل الجديد فقد عاش بحكم خصوصيته الجغرافية، وقلّة سكّانه بعيداً، وإلى حد كبير، على هامش ما ذكرنا، ولم تحتك أو تصطدم أجزاء وازنة منه "بالحداثتين" العثمانية في أواخر العهد العثماني، والغربية في زمن التوسّع الكولونيالي، فكلتاهما وقفت عند قشرته الخارجية وعلى أطرافه. وكانت الغلبة فيه للمجتمعات القبلية، لم يعرف وجود طبقة فلاّحية بالمعنى التاريخي للكلمة، ولم تظهر فيه طبقات وسطى، ودول مركزية، بالمعنى الحديث للكلمة، حتى وقت قريب، أيضاً. 
لذلك، امتازت أنظمة الحكم فيه، بعد نشوء الدولة المركزية، بالمحافظة، وكونها ذات طابع عائلي، وتحالفات وتوازنات مناطقية وقبلية. وقد تعرّضت لضغط هائل، بالمعنى السياسي والأيديولوجي والعسكري أحياناً، من جانب مركز الثقل القديم، في سياق محاولته إعادة تشكيل العالم العربي على صورته. المحاولة التي تصادفت، أيضاً، مع صعود الثروة النفطية في السعودية والخليج.  
وفي سياق كهذا تتجلى الدلالة السياسية للحركات القومية الراديكالية في عدن، وعُمان، وحروب عبد الناصر في اليمن الجمهوري، وظهور تشكيلات جنينية للناصريين والبعثيين واليسار في السعودية والخليج، الذي لم تكن بعض مناطقه قد أصبحت دولاً مركزية بعد.
وبما أن هذا كله وقع في زمن احتدام الحرب الباردة، فكان من الطبيعي، أيضاً، أن يكون جزءاً من ساحاتها وحروبها. وفي هذا السياق، أصبحت حماية السعودية والخليج (وإيران الشاه) ضرورة استراتيجية في خطة الدفاع عن موارد النفط، والأسواق، والتجارة الدولية في الشرق الأوسط. 
ومع نهاية الحرب الباردة، التي انتصر فيها الأميركيون، ورأس المال الغربي، كان لا بد من وجود منتصرين ومهزومين، وتلك كانت آخر المسامير في نعش المركز القديم، الذي تفككت أضلاعه، وخارت قواه، بالضربات الخارجية من ناحية، وفساد وظلم أنظمة الطغاة من ناحية ثانية، فأصبح انهياره مسألة وقت لا أكثر.
ثمة تفاصيل وظلال كثيرة. ولكن فلنحاول وضع اليد على أهم أدوات وأسلحة مركزي الثقل القديم والجديد في محاولة إعادة تشكيل العالم العربي على صورة هذا وذاك، انطلاقاً من فرضية أن لا معنى لكينونة ومركزية مركز الثقل، كائناً ما كان، بلا محاولة كهذه، والتي يجب أن تُرى كعملية هجومية ودفاعية في آن. 
وهذه لا تتجلى دفعة واحدة، ولا تخضع لخطة مُسبقة، بل تنجم عن، وتتأقلم مع، اجتماع وتراكم أحداث وخبرات، ونشوء ضرورات، وما تثير من مخاوف، وتحرّض على رهانات واقعية ومتوهّمة، ناهيك عن المفاجئ، واللامتوقع، كوفاة عبد الناصر، أو زيارة السادات للقدس، أو الثورة الإيرانية، أو احتلال العراق، أو اندلاع موجة الربيع العربي، وصعود ترامب، إذا شئت.
والمهم، في هذا كله، أن أدوات وأسلحة المركز القديم تمثّلت في قوته الحضرية والحضارية الناعمة، وأيديولوجيته القومية، ومجابهته لإسرائيل، وتبنيه للحركة الفدائية الفلسطينية، وفي تنظيماته السريّة، وشبه العلنية، ونزعته الجمهورية والمساواتية، ونموذجه الدولاني. هذا قبل نشوء نموذج الجمهورية الوراثية القائمة، والمحتملة، بطبيعة الحال.
أما أدوات وأسلحة مركز الثقل الجديد فتتمثل في ثروته الهائلة، وقدرته على شراء الولاء، أو غض النظر. وهذه الأشياء، على أهميتها، لا تنوب عن ضرورة وجود أيديولوجيا قابلة للتعميم لتمكين النموذج الدولاني والاجتماعي المحافظ، والمُستقر نسبياً، مع كل ما يسمه من خصوصيات تقليدية، من التصرّف بوصفه الأكثر تمثيلاً "للأصالة والمعاصرة"، إذا ما قورن بالنموذج الاجتماعي والدولاني لأضلاع مركز الثقل القديم.
كان الإسلام السياسي، على اختلاف أسمائه وراياته، حصان طروادة في زمن الحرب الباردة، ولكن انقلاب بعض مكوّناته على بلد المنشأ، والرعاة السابقين، استدعي التعامل معه بحذر، بل وشن الحرب عليه، أحياناً. بيد أن هذا لا ينفي حقيقة أن لا رافعة أيديولوجية محتملة "للأصالة والمعاصرة" بلا بطانة دينية مُحافظة، مع جراحات تجميلية كلما استدعى الأمر.
وبما أن المساحة المُتاحة، هنا، لا تكفي، ولا تصلح للاختزال، نُكمل الكلام بتفاصيل أكثر، في معالجات لاحقة، عن العرب، وترامب، وصفقة القرن، وإسرائيل، والفلسطينيين.