تناقضات المجتمع الإسرائيلي، صراع أم تصدّع؟

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

على خلفية مقتل شاب من أصول إثيوبية على يد الشرطة الإسرائيلية قرب حيفا، اندلعت موجة احتجاجات عارمة ليهود الفلاشا (اليهود الإثيوبيين) في أنحاء إسرائيل، ويبدو أنّ مقتل الشاب لم يكن سوى شرارة، والسبب الرئيسي للاحتجاجات هو المعاملة العنصرية التي يتلقاها هؤلاء، والذين يعامَلون كمواطنين درجة ثالثة.
وللتغطية على ما يحدث، تزعم إسرائيل أن دولاً معينة تعمل، بوساطة شبكات التواصل الاجتماعي، على تعميق الشروخ الاجتماعية في المجتمع الإسرائيلي، وإحداث قلاقل من أجل التأثير على الرأي العام، وعلى الانتخابات. لكن ما قام به اليهود الإثيوبيون من ثورة على الحالة العنصرية إنما هو جزء من صورة أوسع وأكثر بشاعة لواقع من التفرقة على أسس قومية ودينية وإثنية، خاصة ضد الفلسطينيين، الذين تفرقهم إسرائيل إلى مسلمين، ومسيحيين، ودروز، وبدو، وشركس.
وهذا يدعونا إلى تسليط الضوء على مظاهر للتصدع الاجتماعي والإثني أخذت تظهر داخل إسرائيل، ومعها بدأت تبرز بعض التناقضات العميقة (الكامنة) على السطح. 
ولكن مع التمييز بين التصدع الاجتماعي وبين ظاهرتي الانقسام والصراع السياسي.. التصدع الاجتماعي يمكن أن يكون حالة مؤقتة، أو منتظمة ومستمرة، حيث يقسم المجتمع ضمن خطوط ثقافية وصراعية ثابتة لفترات معينة، على خلفيات دينية، أو طائفية، أو ثقافية، أو اجتماعية، وعلى أساسها تتشكل مجموعات متمايزة ومتعارضة باستمرار، أو ما يسمى مجموعات الصراع، ينجم عنها تبلور مظاهر من التوحد القيمي والتمسك بالهوية المشتركة داخل كل مجموعة، مع حدود شبه مغلقة، أي تشكل هويات فرعية (منبثقة عن هوية جامعة قد تكون حقيقية أو متخيلة) ينتج عنها نسق من الفعل التنظيمي لكل هوية أو مجموعة، وهذا التصدع قد يظل محكوماً بقانون عام تضبطه الدولة، ولكن عند تفاقم التصدع تخفق الدولة في التحكم به. 
بينما يتأسس الصراع السياسي على مطامع وأهداف سياسية واقتصادية، تصل درجة الخلاف والتناقض بين أطرافها حد الانقسام، وأحياناً الاقتتال، أو حتى انفراط الهوية الجامعة.. وهذا أكثر ما يرعب إسرائيل.
التصدع الاجتماعي الأخطر في إسرائيل (والذي يصل أحياناً إلى مستويات من الصراع) هو التصدع الديني داخل المجتمع اليهودي نفسه، ويتعلق بدرجة التدين، فبسبب التفاوت الكبير في درجة وشكل التدين بين اليهود الشرقيين (السفارديم) والغربيين (الأشكناز)، تعزز التصدع الإثني بين الطائفتين، حتى إن تعريف الهوية الأشكنازية والسفاردية صار على أساس مذهبي ديني. إلى جانب التصدعات بين المتدينين الصهاينة والمتدينين غير الصهاينة، وبين اليهود الروس والفلاشا وغيرها من الجماعات ذات الخلفيات المتباينة. 
ويمتد هذا التصدع وبصورة أعمق في مواجهة التيار العلماني، علماً أنه ليس هناك فصل واضح بين الدين والدولة في إسرائيل، فكثير من مظاهر ورموز الدولة هي ذات مصدر ديني، فالأعياد الوطنية مثلاً هي بذاتها أعياد دينية، وكذلك تصنيف المواطنين يتم على أساس ديني في الهويات الشخصية. 
وقد أشار تقرير "مدار" الإستراتيجي 2018، إلى أنواع أخرى من التصدعات داخل المجتمع الإسرائيلي، منها ما له علاقة بالتوترات والتصدعات الطبقية الناشئة ما بين الشرائح السكانية، ذات الصلة بالتطورات الديموغرافية والتغيرات الاقتصادية والفجوات الاجتماعية، فضلاً عن التصدع (الصراع) القومي الأهم بين اليهود وسكان البلاد الأصليين، وهذا النوع من الصراع يخلق إشكالية كبيرة في تعريف "الإسرائيلي"، و"الأمة الإسرائيلية"، وتحديد حقوق المواطنة. 
إضافة إلى التصدعات الدينية بين الحريديم والمتدينين الصهاينة والعلمانيين، هنالك التصدع الطائفي بين المهاجرين اليهود من أصول مختلفة (خاصة بين الأشكناز والسفارديم)، وأيضاً التصدعات السياسية الأيديولوجية بين تيار حزب العمل ومن يدور في فلكه، وبين اليمين الإسرائيلي الذي يسعى للسيطرة اليهودية الكاملة على ما يسمونها أرض إسرائيل التوراتية. 
والتصدع الاجتماعي/ الديني الذي نتناوله هنا، هو التصدع القائم في المجتمع اليهودي بين المتدينين والعلمانيين، وانطلاقاً من هذا البعد، يقسم بعض الدارسين مستويات التدين في المجتمع الإسرائيلي اليهودي إلى ثلاث فئات أساسية هي: المتدينون المتزمتون، وهم الذين يلتزمون بالتعاليم الدينية بصفة مستمرة في كل جوانب حياتهم. والفئة الثانية يطلق عليها التقليديون، وهم من يلتزمون بالتعاليم الدينية التي لها جانب اجتماعي مثل الاحتفال بالأعياد الدينية، وتقاليد الزواج، وعادات الأكل، ومراسيم الدفن وفق الشريعة اليهودية، والذهاب إلى الكنيس في المناسبات. والفئة الثالثة تتكون من العلمانيين غير الملتزمين بالدين، وهم يتفاوتون في موقفهم من الديانة اليهودية من عدم المبالاة بالطقوس الدينية إلى معارضتها. يضاف إليهم فئة الملحدين.
وحسب تصنيف بعض الباحثين، تنقسم فئة المتدينين إلى مجموعتين أساسيتين هما: المتدينون الصهيونيون، وهم أكثر انفتاحاً وتقبلاً للمجتمع، والمتدينون الحريديم غير الصهيونيين، وهم أكثر انعزالاً وتشدداً عن بقية المجتمع. وهؤلاء لا يعترفون بالصهيونية، ويتفاوت اعترافهم بدولة إسرائيل بين منكر لها، وبين معترف بحكم الواقع، دون منحها الشرعية الدينية، وكلا الفئتين كانتا تشكلان أقلية في المجتمع اليهودي، وحسب الباحثة هنيدة غانم، كانت نسبة المتدينين بإسرائيل في بدايات تأسيس الدولة لم تكن تتعدى الـ 10%، وهم اليوم يشكلون حوالى نصف المجتمع. 
وحيث إن الصهيونية لم تفصل أصلاً الانتماء الديني عن الانتماء القومي، لذا، ومنذ وقت مبكر لنشوئها، برزت مشكلة الصراع بين العلمانيين والمتدينين، وهذا الصراع المستمر حتى اليوم صراع حقيقي، ولم يكن خداعاً أو تمثيلاً، وهو صراع لم يفضِ حتى اللحظة إلى الفصل بين الأمة والدين، وبين الدين والدولة.
اليوم، وبسهولة، يمكن رصد حالة من التصدع والاستقطاب والصراع بين المتدينين والعلمانيين، تزداد مع الوقت، وهذه الحالة تولد مزيداً من التوتر بين المجموعتين. وتبدو أكثر مظاهر التوتر هذه في التحالف الوثيق بين المتدينين والمستوطنين المتطرفين، ضد مؤسسات الدولة التي ما زالت تحتفظ ببعض الطابع العلماني، حيث يحاول بعض الحاخامات التحريض على الدولة وعلى الجيش، وعلى رفض أوامر الإخلاء من بعض البؤر الاستيطانية، حتى لو وصل الأمر حد الاشتباك مع الجنود وتوجيه الإهانات لهم.
أكثر ما تخشاه إسرائيل أن يعمّ السلام الحقيقي، لأنه سيُفقدها سلاحَها الأهم في تمتين جبهتها الداخلية، وهو سلاح التخويف من خطر خارجي، في هذه الحالة ستبدأ تلك التناقضات والتصدعات بالظهور والتفاعل، وقد تؤدي إلى انشقاقات عامودية في المجتمع الإسرائيلي.