العرب، ترامب، إسرائيل، الفلسطينيون (3-4)

حسن خضر.jpg
حجم الخط

حسن خضر

تكلمنا في معالجتين سابقتين عن تمثيلات أيديولوجية للمركز الجديد، وأشرنا إلى ما يمكن وصفه بصفقة قرن سبقت صفقة ترامب، وأصبحت رهينة لها، ومشروطة بها. 
ويمكن العثور، في الواقع، على مفتاح هذه المشروطية في إحساس مزدوج لدى الفاعلين بوجود مهلة زمنية قصيرة ينبغي استثمارها قبل فوات الأوان، وحقيقة أن ما يسم الرهان عليها من تسارع الخطى ونفاد صبر، لأنها قد لا تتكرر، يدل على قلق وجودي في المقام الأوّل والأخير.
سنعالج موضوع ترامب وإسرائيل في أقسام لاحقة، ويكفي اليوم القول إن الصفقة الأولى، التي شخّصنا خطابها الأيديولوجي في معالجة سبقت، تجلّت على مدار عقدين بعد نهاية الحرب الباردة وكأنها موجة المستقبل المرشحة للنجاح:
انكسرت شوكة النزعة الجمهورية الراديكالية، في المشرق العربي وشمال أفريقيا، فكرةً ونظاماً، واستقر القائم منها في صورة دكتاتوريات وأنظمة أوتوقراطية سافرة، وانفتحت في العراق، وسورية، ومصر، واليمن، وليبيا، مرحلة الجمهوريات الوراثية، مع تفاوت الظروف والخصوصيات. 
وفي تونس حكمت مافيا عائلية، وفي السودان لم يكن للدكتاتور أولاد، وفي الجزائر انتهى الأمر بمأساة بوتفليقة العاجز عن الحركة، والنطق تقريباً.
نعرف، بأثر رجعي، كيف انتهى هذا كله. ولكن صانع السياسة لا يقرأ الغيب، والعلاقات العضوية بين أحداث تبدو فريدة وغير مترابطة ومتفرقة بالمعنى الزمني، لا تتضح بصورة كافية إلا بعد مرور وقت قد يطول أو يقصر. 
فإلى جانب كل ما ذكرنا، وفي سياقه، ومعطوفة عليه، وقعت حرب تحرير الكويت، التي انخرط فيها عرب إلى جانب الأميركيين، وتلتها هجمات الحادي عشر من سبتمبر، وحرب احتلال العراق، وحرب الإرهاب والحرب عليه. وكلها زلازل أنجبت هزّات ارتدادية، ومتلاحقة، ما زالت آثارها بادية للعيان حتى يوم الناس هذا.
وأهم ما نجم عن تضافر هذا كله أن النظام الإقليمي انهار وتفكك، ونشأ في المنطقة فراغ للقوّة لم يكن لدى الأميركيين ما يكفي من بعد النظر، وحسن النيّة، لإيقافه على قدميه، ورؤيته بعيون غير إسرائيلية. وأن المركز الجديد لم يكن لديه ما يكفي من وسائل وأدوات القوّة لملء الفراغ. وأن قوّتين إقليميتين، في الجوار، هما تركيا وإيران، أصبحتا مرشحتين، بحكم الأمر الواقع، لملء الفراغ. وأن روسيا تسعى للثأر من جرح ومذلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وأن الصين قادمة، وأن أوروبا لا تغامر بسياسة خارجية بعيداً عن الأميركيين.
لذا، بدا كل شيء وكأنه في المنطقة الرمادية، وكان يمكن لوضع كهذا أن يعمّر أطول، رغم ما فيه من منغّصات، ولكن حدثين من الوزن الثقيل أثارا الذعر، وأشعلا أكثر من ضوء أحمر، وقرعا أكثر من جرس للإنذار، فرضا على الجميع الخروج من المنطقة الرمادية، واللعب على المكشوف. فلم يبق لدى أحد الكثير من الوقت.
تجلى الأوّل في موجة الربيع العربي، التي كان لها وقع الصاعقة. فلم يتخيّل أحد أن الدكتاتوريات، والأنظمة التي طعنت في السن، واغتربت عن العصر، قد انتهت صلاحيتها بهذه السرعة، وأنها أوصلت شعوبها إلى حافة الانفجار، وأن جمر الشوكة القيامية الراديكالية تحت الرماد، وأن الديمقراطية، وحقوق الإنسان، والتعددية السياسية، وقضايا النساء، ما زالت عملة قابلة للتداول. ولم يتخّيل أحد، أيضاً، أن يعقب الموجة كل هذا الدمار. 
أما الثاني فكان ظهور الدواعش، الذين قلبوا الطاولة على كل شيء. ولا يهم في هذا التحليل الدفيئات التي أنجبتهم، ولا شن الحرب عليهم في مكان، والرهان عليهم في مكان آخر. 
فالذين تسمّوا باسم "الدولة الإسلامية" كانوا كائنا خرافياً غير مسبوق، أعلن الحرب على العالم: تشكل مِنْ، وشكّلته، قطع غيار كثيرة: الوهابية في أكثر تجلياتها الصحراوية جنوناً وجموحاً، والبعثية الصدامية في أكثر أطوارها انحطاطاً، وما تراكم من خبرات وشبكات الجهاديين في أفغانستان، والبوسنة، والشيشان، واليمن، والجزائر، والصومال. 
ويكفي القول، هنا، إن الحدثين أثارا فزع المركز الجديد، والرد عليهما تجلى، وما زال، في أمرين: هما الثورة المضادة، ونتائجها الكارثية، لكبح موجة الربيع العربي من ناحية، والبحث عن تحالفات جديدة لكبح المخاطر الأمنية، والطموحات التركية والإيرانية، التي قد تتقاطع مع تلك المخاطر، من ناحية ثانية.
وفي سياق كهذا يتجلى دافع التقارب مع إسرائيل بحكم موقعها الجغرافي، وقدراتها العسكرية والتكنولوجية والاستخبارية، وعلاقتها الخاصة بالأميركيين، علاوة على كونها حائط صد متينا في وجه الأتراك والإيرانيين.
وثمة، هنا، وبقدر ما يتعلّق الأمر بالمسألة الفلسطينية، ما يستدعي تصحيح خطأ شائع. فالبعض يعتقد أن مسعى إغلاق الملف الفلسطيني، وارتهان ما وصفناه بالصفقة الأولى للثانية، يصدر عن محاولة لتضميد جرح مفتوح، ونزع شوكة راديكالية من خاصرة الشرق الأوسط. والأمر ليس كذلك، فإسرائيل لا تجهل ما لديها من أوراق القوّة، ولا تترفع عن المساومة، أو تفشل في قراءة المتوّقع منها. والصحيح أن العرب يحتاجونها أكثر مما تحتاجهم. 
فلا هي، ولا أحد من الشركاء تحت الطاولة، وفوقها، يقيس رهانات البقاء والمصير بالكلام المعسول عن السلام والتعايش. 
لذا، لا يمكن تفسير ارتهان ما وصفناه بالصفقة الأولى لصفقة ترامب، وكيف أصبحت مشروطة بها، إلا كترجمة لشرط إسرائيلي جوهره أن قبول الصفقة الترامبية، والمشاركة فيها، والإنفاق عليها، هو الثمن المُسبق لفتح صفحة جديدة. 
نكتفي، اليوم، بهذا القدر، فموضوع إسرائيل مرشح لقراءة لاحقة، وقبلها سنعالج موضوع ترامب، الذي يبدو وكأنه خرج من رواية المرشّح المنشوري، التي قرأها الأميركيون قبل ستين عاماً. 
وفي سياق كهذا نقترب أكثر من معنى المهلة الزمنية القصيرة، وتسارع الخطى، ونفاد صبر الفاعلين.