كان اختراع حروف الطباعة على يد الألماني يوحنا غوتنبرج أحد أسباب فى النهضة العلمية التي شهدتها أوروبا فى العصر الحديث، فبينما ساهمت الطباعة فى تقدم العلوم تردد المسلمون فى استخدامها خوفا من تحريف القرآن الكريم، حتى استطاع "إبراهيم متفرقة" بإقناع شيخ الإسلام في الدولة العثمانية باستخدامها.
حروف الطباعة المعدنية كان أول من استخدمها هو "يوهانس غنسفلايش" الذي اشتهر فيما بعد بلقب "يوحنا غوتنبرغ" الألماني المولود عام 1397، وعرف على أنه مخترع حروف الطباعة، وأول من وحولها إلى حقيقة واقعة.
ساعدته مهنته القديمة في سبك المعادن على صب الحروف ضمن قوالب ثابتة، حتى أصبحت هي حجر الأساس الذي بنى عليها اختراعه الجديد، وفتح بذلك صفحة جديدة في تاريخ المعرفة الإنسانية.
وكانت "التوراة" هي الكتاب الأول الذي عمل "غوتنبرغ" على طباعته، حيث أخرجه في 1280 صفحة.
وبينما كانت "التوراة" هي أول عمل يخرج من مطبعة غوتنبرغ فقد كان الخوف من تحريف "القرآن الكريم" وكتب التراث في العالم الإسلامي هي حجة العلماء وشيخ الإسلام فى ذلك الوقت "يكيشهيرلي عبد الله أفندي" لمنع ذلك الإختراع الذي كان له فيما بعد الدور الأكبر في انتشال أوروبا من الجهل إلى جادة العلم.
كيف بدأت القصة؟!
بدأت مشكلة الطباعة في العالم الإسلامي عندما أصدر السلطان العثماني "بايزيد الثاني" سنة 1485 أمرا سلطانيا نهى فيه رعاياه عن إنشاء المطابع، ويُعزى هذا القرار إلى أمرين هامين، الأول أن العلماء عارضوا هذا الاختراع خوفا على الكتب الدينية من التدليس والتحريف والفوضى التي قد تتبع ذلك.
لذا كان تأسيس أي مطبعة على أراضي الدولة العثمانية يحتاج إلى فتوى من شيخ الإسلام و هو ما كان صعبا في ذلك الوقت، إضافة إلى أن وجود المطبعة كان سيضر بأكثر من 20 ألف ناسخ وورَّاق في اسطنبول وحدها كانوا يمتهنون هذه العمل في ذلك الوقت.
العجيب في الأمر أن الأقليات في الدولة العثمانية هي الوحيدة التي منحت استثناءات في إنشاء المطابع و ذلك عندما رخص السلطان "بايزيد الثاني" لليهود إقامة مطبعة خاصة بهم منذ العام 1494، لإعانتهم على حفظ دينهم، ولكنه اشترط عليهم ألاّ يطبعوا كتباً بالأحرف العربية، ويقتصروا في الطباعة على الحروف العبرانية واللاتينية، و قد أقاموا نتيجة ذلك مطبعتين، إحداهما في سالونيك و الأخرى في إسطنبول.
الأقليات الأخرى من رعايا الدولة العثمانية كانت لهم مطابعهم الخاصة، ففي عام 1567 أقام الأرمن أول مطبعة لهم في مدينة سيفا، كما أسس اليونانيون مطبعتهم الأولى في إسطنبول عام 1627، أما العرب المسيحيون فقد سمحت الدولة لهم باستخدام المطبعة ابتداء من عام 1610، كل ذلك في وقت كان ممنوعا على رعايا الدولة العثمانية من المسلمين إنشاء المطابع.
هذا الحظر الديني و القانوني على استخدام الطباعة يعتبره البعض من أهم أسباب التراجع العلمي فى العالم الإسلامي آنذاك، و لكسر هذا الجدار الصلب الذي وقف حائلا في ظل هذه القفزة العلمية الهائلة فى أوروبا، كان لا بد من وجود شخص يمكنه إقناع "شيخ الإسلام" أن المطبعة حلال! و كان ذلك الشخص هو إبراهيم متفرقة.
من هو إبراهيم متفرقة؟!
ولد إبراهيم متفرقة عام 1674 في مدينة قوزوار المجرية، و كان مسيحيا يدين بالبروتستانتية، و كان يجيد إضافة إلى العثمانية اللغتين الفرنسية والمجرية، و قام بترجمة عدة كتب بهذه اللغات.
أما اسم "متفرقة" فقد كان يطلق في عهد الدولة العثمانية على نوع من العاملين الذين يقومون بخدمة السلطان و الوزراء، والذين كانوا يحظون بثقتهم.
و لمتفرقة كتب ألفها بعد إسلامه بسنوات مثل "رسالة إسلامية" و التي نقل من خلالها قصة تحوله للإسلام، كما ألف كتاب أصول الحكم لنظام الأمم.
كتب متفرقة أيضاً كتاباً أو رسالة بعنوان "وسيلة الطباعة" و هي الرسالة التي ضمن فيها حججه و آراءه التي أقنع من خلالها "شيخ الإسلام" و "الصدر الأعظم" بضرورة إنشاء مطبعة للمسلمين، وطبع متفرقة تلك الرسالة في مطبعته بعد أن منح له الإذن بإنشائها.
رسم متخيل لإبراهيم متفرقة أثناء عمله في المطبعة، و شاهدة قبره في اسطنبول
دور إبراهيم متفرقة
عمل متفرقة في البداية على إقناع الصدر الأعظم إبراهيم باشا والسفير العثماني في باريس جلبي محمد أفندي يكرمي سكر بضرورة إنشاء الطابعة، حيث قدم لهم هذه الرسالة و ساق فيها الحجج موضحا الحاجة إلى المطبعة وفوائدها و دورها في حياة الشعوب.
كما أوضح متفرقة في رسالة "وسيلة الطباعة"، "كيف اهتم المسلمون بالقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف و ضبطه، ثم تحدث عن ضياع كتب كثيرة أيام جنكيز خان و هولاكو والأندلس، مما أدى إلى ضياع العلوم و المعارف، و بين كذلك كيف أن الكثير من الكتب النادرة ضاعت بسبب الحرائق التي تنشب في اسطنبول بين حين و آخر، و ذكر أن طلبة العلم عاجزون عن توفير الكتب المقررة عليهم".
رسالة "وسيلة الطباعة لأبراهيم متفرقة و التي كانت من أوائل ما طبع في مطبعته
رسائل متفرقة إلى الصدر الأعظم
يذكر الباحث محمد زاهد غول في دراسته عن إبراهيم متفرقة أن الحجج التي ساقها في رسالته لإقناع أركان الدولة تدل على أن النفوس غير مهيئة لقبول الطباعة، و كانت النتيجة أن الرفض و التردد ظل سيد الموقف، فقام بكتابة رسالة آخرى عام 1727 جدد فيها ما ذكره في رسالته السابقة وأضاف إليها طلبا بإصدار فرمان من السلطان و فتوى من شيخ الإسلام يذكر فيهما السماح له بطبع الكتب، كما أرفقها بنماذج طباعية من كتاب معجم "صحاح الجوهري" أو "وان قولي" الذي كان ينوي طبعه بعد الموافقة، و يدل ذلك على أنه كان قد قد أسس المطبعة فعليا تحت غطاء من بعض أركان الدولة المؤمنين بالفكرة، و لكنه كان ينتظر الفرمان والفتوى ليعلن ذلك.
الرسالة الثانية ذكر فيها أن "صدور أمر سام بطبع الكتب سوف يكون له أثر حسن على الطلاب الساعين في طلب العلوم الشرعية والذين لا يملكون القدرة المادية على امتلاك الكتب، و باعث لهم على اقتناء الكتب النفيسة بأسعار زهيدة"، كما قال إنه "يأمل في أن يصدر مرسوم بطباعة 500 نسخة من معجم وان قولي".
كما عرف فن الطباعة بأنه "فن الجديد و الأمر المفيد، و أن هذا الفن المحجوب عن الناس طريقة جديدة في نشر الكتب و تصحيحها و هو سبب لمنافع العباد"
ثم ختم رسالته بقوله "إن قيام سعادة الصدر الأعظم بالإشارة إلى حضرة مفتي الأنام و شيخ مشايخ الإسلام بإصدار الإذن بذلك، سوف يكون أمرا مستحسنا لدى الناس ليتبينوا أن العمل موافق للشرع المبين، و سوف يطبع هذا الأمر في أول كل كتاب".
أحد أعمال متفرقة
و قد كان شيخ الإسلام في ذلك الوقت هو الشيخ يكيشهيرلي عبد الله أفندي، وقد كان للصدر الإعظم آنذاك إبراهيم باشا دورا كبيرا في ذلك، حيث وافقت توجهاته توجهات السلطان أحمد في ذلك الحين في إدخال الإصلاح إلى البلاد، و حيث كان السلطان واعيا بشكل كبير بأهمية التحديث، في حين اقتصر إدراك الطبقة الحاكمة في ذلك الوقت على الجوانب العسكرية، بينما استطاع إبراهيم متفرقة التنويري -كما يصفه زاهد غول- إدراك الخلل في الجوانب الأخرى، واستطاع تحقيق ذلك بعد معاناة استمر ثمان سنوات انتهت بإنشاء أول مطبعة للمسلمين في اسطنبول.