أصيل، جسور، مفاجئ، هذه هي الكلمات الايجابية التي يمكن قولها عن تعيين غال هيرش مفتشا عاما للشرطة. المشكلة هي أنه بالكلمات ذاتها بالضبط يمكن وصف التعيين بأنه قفزة بالرأس داخل بركة فارغة او سياقة بسرعة 100كم في الساعة في الظلام في سيارة بلا أضواء. هذا أصيل، جسور، مفاجئ: ليس مؤكدا أنه جيد.
مايكل جوردون، كبير لاعبي كرة السلة في كل الأزمنة، قرر في العام 1993 استبدال كرة السلة بـ «البيسبول». وكانت التوقعات عالية؛ لكن كانت خيبة الامل مريرة. بعد سنتين عاد جوردون الى المهنة الوحيدة التي عرف كيف يتميز فيها: كرة السلة.
غال هيرش رجل يعرف كيف يثير الانطباع لدى سامعيه – مثقف، ذكي، يصل الى الناس. ولكن قد يحصل له داخل الشرطة ما حصل لمايكل جوردون في ملعب البيسبول، ومع كل الاحترام لحياته المهنية والعسكرية فانه ليس مايكل جوردون.
يمكن أن نقدر لماذا اختار وزير الامن الداخلي، جلعاد اردان، هيرش بالذات. من كل المرشحين الذين التقاهم داخل الشرطة وخارجها، كان هيرش الاكثر اثارة للانطباع. أردان مقتنع بان هناك حاجة الى احداث ثورة في الشرطة؛ وقد وعده هيرش بثورة. ووجد فيه جوعا كبيرا للتغيير، للاصلاح، جوعا لم يجده في لغة الجسد، وفي الحديث، في عيون المرشحين الآخرين.
وكما هو الحال دوما لدى هيرش، وانا اقول هذا في الثناء عليه، الى جانب النوازع توجد خطة، توجد استراتيجية. يستعد هيرش لتطهير نفسه من الوصمة التي التصقت به في العام 2006، اثناء حرب لبنان الثانية. فقرار الجيش الاسرائيلي اعادته الى خدمة الاحتياط، كنائب قائد قيادة العمق، منحه اعترافا جزئيا؛ ورسائل المديح من القاضيين المتقاعدين حشين وفينوغراد ساهمت بدورها؛ وكذلك خطاب وداع مصور لرئيس الاركان حسّن الرزمة. وجاء التعيين لمنصب المفتش العام، أول من أمس، ليغلق الدائرة. لقد حصل هيرش على اعادة اعتباره مع علاوة هائلة.
في حرب 2006 انضممت الى لواء الكسندروني، اللواء الذي قاتل في اطار فرقة 91 بقيادة غال هيرش، في الجبهة الغربية في لبنان. ما رأيته وسمعته هناك ورآه وسمعه الاخرون لم يثنِ على أداء قائد الفرقة، والامور معروفة. ولكن منذ هذه الاثناء مرت تسع سنين، واستخلص هيرش الدروس، نضج، وينظر الى الحرب اليوم بشكل أكثر توازنا مما في حينه.
ولكن السؤال الذي أمامنا ليس ما يستحقه غال هيرش بل ما تستحقه شرطة اسرائيل. فالشرطة مهنة وليست جائزة ترضية. وقيادتها تتطلب تحكما بمنظومة مركبة من قوانين وقواعد اللعب، المسموح والممنوع، الفهم في التحقيقات، المباحث، حفظ النظام، جمع الادلة، الملفات التي يجدر اغلاقها والملفات التي من المحظور اغلاقها، عقلية عالم المجرمين، عقلية عالم افراد الشرطة. ولما كان هيرش سريع الفهم، فانه سينجح في الوصول الى هذا الفهم. وهذا سيستغرقه سنة، قال لي، أول من امس، لواء شرطة متقاعد. وقد كان متفائلا جدا.
قال ايهود باراك ذات مرة عن حرب لبنان 2006 ان المأساة كانت أنه في صف القيادة، من فوق الى تحت، لم يراكم احد تجربة في العمل مع زميله. رئيس الوزراء اولمرت لم يجرب العمل مع وزير دفاعه، بيرتس؛ ولم يجرب بيرتس العمل مع رئيس الاركان حلوتس؛ ولم يعمل حلوتس مع قائد المنطقة أدان، ولم يعمل أدان مع قائد الفرقة هيرش. لم تكن لهم لغة مشتركة؛ لم تكن هناك قاعدة للثقة.
هل ستكون للمفتش العام الجديد لغة مشتركة مع وزيره؟ هل ستكون له لغة مشتركة مع اللواء شرطة الذي سيعين نائبه، مع الالوية في المحافظات، مع الشرطي والشرطية في مقر شرطة نتيفوت، مع وحدة اليسم الخاصة في القدس، مع المحقق في وحدة التحقيقات لهف 433، هل سيفهمون لغته المختصرة، وذكاءه البالغ؟ ليس مؤكدا (احد قادة هيرش في الجيش الاسرائيلي قال ذات مرة عن كفاءاته الخطابية انه «اذا حصل شيء ما للسان غال فستعتبر هذه حادثة عمل»). والأهم من هذا، هل سيفهمهم؟ هل سينصت لهم؟
ان قوة ومكانة مفتش عام شرطة اسرائيل تستمدان من تراث الانتداب البريطاني. فهو مستقل في الميدان – يمكن للحكومة أن تنحيه، ولكنها محدودة جدا في قدرتها على التدخل في قراراته، وحسن أن هكذا. وزير الامن الداخلي يوصي الحكومة بتعيين مفتش عام جديد: هذا هو يومه العظيم. اما الباقي فهو يوم التفاهات: المفتش العام غير ملزم باطاعة تعليماته، من المحظور عليه أن يتلقى معلومات عن الملفات، من المحظور عليه أن يتدخل في التحقيقات. عندما كان افيغدور كهلاني، وزير الامن الداخلي، أراد أن يزور وحدة التحقيقات. فأوضح له المفتش العام، اساف حيفتس، بان بوسعه فقط أن يتعرف على المبنى، على الملاكات، على الميزانيات. ولا كلمة عن التحقيقات. فشعر كهلاني بإهانة شديدة.
تربى غال هيرش في منظومة اخرى، منظومة ملزم فيها رئيس الاركان برفع تقرير كامل الى وزير الدفاع، منظومة تنفذ الأوامر، لا تحقق بالشبهات الجنائية ضد الوزراء في الكابنت، ضد رئيس، ضد رئيس وزراء.
جلعاد اردان هو الاخر تربى في منظومة اخرى. ضباط الشرطة يدعون بانه لم يستوعب بعد القيود التي يفرضها عليه القانون، وقواعد اللعب. وهو يتفاجأ عندما يوضح له ألوية الشرطة بانهم لا يمكنهم ان يطيعوا أوامره – فهم يتبعون فقط وحصريا لامرة المفتش العام.
أردان مقتنع بان الصورة المتردية للشرطة تنبع من ثقافة تنظيمية فاسدة. فالكمية الشاذة للألوية الذين اعتزلوا على خلفية علاقات محظورة مع الشرطيات تعزز ادعاءه. اخرون يقولون ان مشكلة الشرطة هي الزعامة. فهي بحاجة ماسة الى قائد يدخل فيها روحا جديدة، يعطي افراد الشرطة فخر الوحدة.
ليس مؤكداً ان تعيينا من الخارج، ليس تعيين فريق عسكري، ولا حتى لواء عسكري. بل من اعتزل الجيش الاسرائيلي برتبة عميد، هو الذي سيملأ أفراد الشرطة بفخر الوحدة. وبالتأكيد فانه لا يثير حماسة الوية الشرطة الذين في هذه الأثناء هم في رتبة أعلى منه. عندما اعتزل هيرش الجيش الاسرائيلي، بعد حرب 2006 تحدث بمرارة عن المعاملة التي تلقاها من قادته في هيئة الاركان العامة. الجيش هو حديقة ملاهي مقارنة بالشرطة.
ولكن كل هذا سيدحر جانبا بعد يوم من اداء هيرش اليمين القانونية لمنصب المفتش العام. من تلك اللحظة يكون الكثير جدا منوطا به. عليه أن يكون متزمتا للقانون والقضاء، مستقيما كالمسطرة، عدوا للمجرمين، مرعبا للفاسدين. عليه أن يقود 30 الف شرطي محبط، بعضهم على الاقل يرون في تعيينه إهانة؛ عليه أن يرد بضبط النفس على الانتقاد، وحتى الانتقاد غير النزيه؛ عليه أن يحاول ان يسافر ببطء وان يصل بسرعة (اذا حصل له العكس فسيُنشر الشريط في كل الشبكات)؛ ان يكون جزءا من الحكومة وان يكون ضدها. التحدي هائل. لا يتبقى غير أن نتمنى له النجاح، من كل القلب.
عن «يديعوت»