ثمة ما يبرر الترحيب بـ «بنت من شاتيلا»..!!

حسن خضر.jpg
حجم الخط

حسن خضر

يبرز أكرم مُسلّم من بين الأصوات الجديرة بالانتباه، وبقدر ما يتعلّق الأمر بجيل جديد من الروائيين والروائيات، الذين يمكنهم إغناء المشهد الروائي الفلسطيني، والارتقاء به. وهذا، على الأقل، ما تعد به أعمالهم المنشورة حتى الآن.
ومع هذا في الذهن، نفتتح الكلام عن رواية مسلّم الأخيرة "بنت من شاتيلا" الصادرة عن "الأهلية للنشر والتوزيع" في الآونة الأخيرة، بالإشارة إلى أشياء من نوع: أن في الحكاية حكايات، وأن الكاتب يمكنه رسم مشاهد مؤثرة، فعلاً، وأن لديه مهارة اللعب بأكثر من خيط، في وقت واحد، دون المجازفة بتمزيق نسيج، أو قماشة الحكاية الجامعة، نفسها، وأن المراوحة ما بين المجازي والواقعي، التي يُراد لها خلق دلالة سياسية، أو وجودية، من نوع ما، تصبح ممكنة، دون إلحاق الأذى بموضوعها، نتيجة ذائقة مُثقّفة بالمعنى العام، وحساسية إزاء تقنيات وشروط لعبة السرد الروائي، في آن. 
ولنبدأ، بعد اجتياز هذه العتبة، بملاحظة لإدوارد سعيد في "ما بعد السماء الأخيرة"، ومفادها أن ثمة ما يشبه سمة مشتركة بين أعمال الفلسطينيين السردية تتجلى في تشظي الحبكة، أو عدم قدرتهم على بلورة حبكات متماسكة لأن حياتهم تبدو "كسرد مُتقطّع"، بما يعني أنهم لا يقفون على أرض صلبة من ناحية، وأن الحكاية الواحدة، من ناحية ثانية، تتكون من حكايات، وهذه لا تكف عن التناسل، سواء في زمن السرد، أو في زمن سبقه أو تلاه. ولعل هذا ما اختزلته مجموعة لأمجد ناصر بعنوان "الحياة كسرد متقطّع". 
على أي حال، يتجلى الزمن الروائي في "بنت من شاتيلا" كسرد مُتقطّع تتجاور وتتقاطع فيه أكثر من حكاية وحياة، بما يمكّن من تجاور وتقاطع أزمنة وأمكنة مختلفة، أيضاً. حيوات فدائيين وناجين من المجزرة، وجيل خرج من أصلابهم وأعقبهم ما بين مخيم شاتيلا، في بيروت، ومدينة هامبورغ الألمانية. وعلى خلفية هذا كله تأملات في معنى المجزرة، وماهية الضحية، على اختلاف تسمياتها، والجلاّد، على اختلاف تسمياته. بيد أن ناظم هذا الزمن الروائي كله يتجلى في جرس المنبّه في شقة ألماني في هامبورغ، المُراد منه إنقاذه من كابوس قبل وقوعه بقليل.
وبهذا نتقدّم خطوة إضافية لمقاربة معنى اللعب بأكثر من خيط دون المجازفة بتمزيق القماشة الجامعة: في أيام الطفولة كنّا نلعب لعبة أسمها السبعة أحجار، لم يكن عدد الأحجار إلزامياً، بالضرورة، ولكن كان يجب وضع عدد من الأحجار في يد واحدة، والتناوب في قذفها والتقاطها، باليد نفسها، قبل سقوطها على الأرض. وقد استخدم سلمان رشدي مجاز لعبة الأحجار هذه كمقياس لكفاءة الروائي في اللعب بالشخوص، والأزمنة، والأمكنة، وما يتخلّق فيها ومنها من حكايات، دون المجازفة بسقوط الحجر، أو إفلات الخيط.
وهذا ما تحقق في "بنت من شاتيلا"، فعلى الرغم من تثاقل حركة السرد، أحياناً، وحتى وجود زوائد هنا وهناك، إلا أن تقنية إنشاء ثنائيات تصبح بموجبها الشخصيات والمصائر مرآة لغيرها، حررت فعل تجاور وتقاطع الشخوص والأزمنة والحكايات من شبهة الابتذال، وأضفت على السرد قدراً من السيولة والعفوية.
ثمة ملاحظة سنحتفظ لها للمقطع الأخير في هذه المعالجة. وما يستدعي التنويه، الآن، يتمثل في العمارة الروائية، أو القماشة الكبرى، إذا شئت، وأبرز ما ينبغي أن يُقال، في هذا الشأن: أن الأحياء في الرواية، ما عدا استثناء واحد، بلا أسماء، فلكل من الأحياء سمة، أو صفة من نوع ما، وأما الموتى فيحضرون بأسمائهم، وأن الكاتب، الذي يمارس دور الراوي، يتوسّط بين القرّاء وشخوص روايته لتمكين الآخرين من إسماع أصواتهم. وبهذا المعنى الصوت شخصية، روائية، أيضاً، سواء صوت "الشاب الأنيق" الذي تسبب في "موت" العجوز الألمانية، أو صوت البنت، أو من تشبهها، تعزف في الشرفة، أو صوت طرقات الفدائي ثلاث مرّات على الباب.
ومع ذلك، البنت التي شهدت المجزرة، ويُراد لها أن تشهد عليها، تقاوم فعل تسليع صوتها الشخصي، وتحويلها، هي، إلى وسيلة إيضاح. فلا يوجد في اللغة ما يكفي من المفردات والدلالات للقبض على معنى المجزرة. والمفارقة، في هذا الشأن، أن الفرنسي إيلي فايزل، الذي حصد بفضل هوسه بالكتابة عن الهولوكوست جوائز مرموقة، أصر دائماً على استحالة القبض على معنى المجزرة، ناهيك عن الكتابة عنها. "بنت من شاتيلا" تقول العكس، يمكن الكتابة عن المجزرة، مطلق مجزرة. ولا ضرورة للمفاضلة بين ضحية وغيرها، ولا بين جلاّد وآخر.
أما الملاحظة الأخيرة، فتتعلق بحقيقة انحياز الكثير من القرّاء لنصوص تشبع عواطفهم السياسية. وفي "بنت من شاتيلا" الكثير مما يمكن أن يُشبع أو يستدعي عواطف كهذه. وبهذا المعنى قد يربح السجال السياسي نقاطاً إضافية، ولكن لا يعود من عواطف كهذه الكثير على "الأدب" وطريقة التعامل معه، وفهم فعله وجمالياته وفعاليته في الحياة، والعلاقة بالواقع. 
وبهذا المعنى، أيضاً، تستمد "بنت من شاتيلا" قيمتها، بالمعنى الأدبي، من عمارتها، ومن القماشة الجامعة لحكايات تتجاور وتقاطع، ومن كفاءة اللعب بأكثر من خيط دون المجازفة بتمزيق القماشة نفسها، ومن الالتفات إلى التفاصيل الصغيرة والعابرة، التي غالباً ما تقوم مقام الغراء اللاصق بين مقاطع، ومشاهد مختلفة يحضر فيها أحياء بصفاتهم، ويقطنها موتى تحررهم أسماؤهم من تحويلهم إلى أرقام. وفي هذا، أيضاً، ما يعيد الاعتبار إلى الضحية. وفي فعل البنت التي ترفض "تمثيل" دور الشاهد والشهيد ما يحرر سردية الفلسطينيين الكبرى من فعل الرثاء الذاتي.
لكل هذه الأسباب ثمة ما يُبرر الترحيب بـ "بنت من شاتيلا".