الغيبة والأمر بحفظ اللسان

الغيبة والأمر بحفظ اللسان
حجم الخط

غزة - وكالة خبر

قال اللَّه تعالى: "ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه! واتقوا اللَّه إن اللَّه تواب رحيم" .

وقال تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم؛ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً". 
وقال تعالى: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".

اعلم أنه ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه عن جميع الكلام إلا كلاماً ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة فالسنة الإمساك عنه؛ لأنه قد ينجر الكلام المباح إلى حرام أو مكروه وذلك كثير في العادة والسلامة لا يعدلها شيء.

وَعنْ أبي هُريْرَةَ رضي اللَّه عنْهُ عَنِ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ : « مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَليقُلْ خَيْراً ، أوْ ليَصْمُتْ » متفقٌ عليه .
وَهذا الحَديثُ صَرِيحٌ في أَنَّهُ يَنْبغي أن لا يتَكَلَّم إلاَّ إذا كَان الكَلامُ خَيْراً ، وَهُو الَّذي ظَهَرَتْ مصْلحَتُهُ ، وَمَتى شَكَّ في ظُهُورِ المَصْلَحةِ ، فَلا يَتَكَلَّمُ .

وعَنْ أبي مُوسَى رضي اللَّه عَنْهُ قَال : قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ أيُّ المُسْلِمِينَ أفْضَلُ؟ قال : « مَنْ سَلِمَ المُسْلِمُونَ مِن لِسَانِهِ وَيَدِهِ » . متفق عليه .

وَعَنْ سَهْلِ بنِ سعْدٍ قَال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « مَنْ يَضْمَنْ لي ما بيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بيْنَ رِجْلَيْهِ أضْمنْ لهُ الجَنَّة » . متفقٌ عليهِ .

وَعَنْ أبي هُرَيْرَةَ رضي اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يَقُولُ : إنَّ الْعَبْد لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمةِ مَا يَتَبيَّنُ فيهَا يَزِلُّ بهَا إلى النَّارِ أبْعَدَ مِمَّا بيْنَ المشْرِقِ والمغْرِبِ » . متفقٌ عليهِ .
ومعنى : « يَتَبَيَّنُ » يَتَفَكَّرُ أنَّهَا خَيْرٌ أمْ لا .

وَعَنْهُ عن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : « إنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالكَلِمةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالى مَا يُلقِي لهَا بَالاً يَرْفَعُهُ اللَّه بهَا دَرَجاتٍ ، وَإنَّ الْعبْدَ لَيَتَكلَّمُ بالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ تَعالى لا يُلْقي لهَا بالاً يهِوي بهَا في جَهَنَّم » رواه البخاري .

وعَنْ أبي عَبْدِ الرَّحمنِ بِلال بنِ الحارثِ المُزنيِّ رضي اللَّه عَنْهُ أنَّ رَسُولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قالَ : « إنَّ الرَّجُلَ ليَتَكَلَّمُ بالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوانِ اللَّهِ تَعالى ما كَانَ يَظُنُّ أنْ تَبْلُغَ مَا بلَغَتْ يكْتُبُ اللَّه اللَّه بهَا رِضْوَانَهُ إلى يَوْمِ يلْقَاهُ ، وَإنَّ الرَّجُلَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِنْ سَخَطِ اللَّه مَا كَانَ يظُنُّ أن تَبْلُغَ ما بلَغَتْ يكْتُبُ اللَّه لَهُ بهَا سَخَطَهُ إلى يَوْمِ يلْقَاهُ ».رواهُ مالك في « المُوطَّإِ » والترمذي وقال :حديثٌ حسنٌ صحيحٌ .

وعَنْ سُفْيان بنِ عبْدِ اللَّهِ رضي اللَّه عنْهُ قَال : قُلْتُ يا رسُولَ اللَّهِ حَدِّثني بأمْرٍ أعْتَصِمُ بِهِ قالَ : « قُلْ ربِّي اللَّه ، ثُمَّ اسْتَقِمْ » قُلْتُ : يا رسُول اللَّهِ ما أَخْوفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ ؟ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ، ثُمَّ قَال : « هذا » . رواه الترمذي وقال : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ .

وَعَن ابنِ عُمَر رضي اللَّه عنْهُمَا قَالَ : قَالَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « لا تُكْثِرُوا الكَلامَ بغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ ، فَإنَّ كَثْرَة الكَلامِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّه تَعالَى قَسْوةٌ لِلْقَلْبِ ، وإنَّ أبْعَدَ النَّاسِ مِنَ اللَّهِ القَلبُ القَاسي » . رواه الترمذي .

وعنْ أبي هُريرَة رضي اللَّه عَنهُ قَالَ : قال رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « مَنْ وَقَاهُ اللَّه شَرَّ مَا بيْنَ لَحْييْهِ ، وشَرَّ مَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ دَخَلَ الجنَّةَ » رَوَاه التِّرمِذي وقال : حديث حسنٌ.

وَعَنْ عُقْبةَ بنِ عامِرٍ رضي اللَّه عنْهُ قَالَ : قُلْتُ يا رَسول اللَّهِ مَا النَّجاةُ ؟ قَال : « أمْسِكْ عَلَيْكَ لِسانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بيْتُكَ ، وابْكِ على خَطِيئَتِكَ » رواه الترمذي وقالَ : حديثٌ حسنٌ .

وعن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللَّه عَنْهُ عن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ : « إذا أَصْبح ابْنُ آدم ، فَإنَّ الأعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسانَ ، تَقُولُ : اتِّقِ اللَّه فينَا ، فَإنَّما نحنُ بِكًَ : فَإنِ اسْتَقَمْتَ اسَتقَمْنا وإنِ اعْوججت اعْوَججْنَا » رواه الترمذي .
معنى « تُكَفِّرُ اللِّسَان » : أَي تَذِلُّ وتَخْضعُ لَهُ .

وعنْ مُعاذ رضي اللَّه عنهُ قال : قُلْتُ يا رسُول اللَّهِ أخبرني بِعَمَلٍ يُدْخِلُني الجَنَّة ، ويُبَاعِدُني عن النَّارِ ؟ قَال : « لَقدْ سَأَلْتَ عنْ عَظِيمٍ ، وإنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلى منْ يَسَّرَهُ اللَّه تَعَالى علَيهِ : تَعْبُد اللَّه لا تُشْركُ بِهِ شَيْئاً ، وتُقِيمُ الصَّلاةَ ، وتُؤتي الزَّكَاةَ ، وتصُومُ رمضَانَ وتَحُجُّ البَيْتَ إن استطعت إِلَيْهِ سَبِيْلاً، ثُمَّ قَال : « ألا أدُلُّك عَلى أبْوابِ الخَيْرِ ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ . ،َالصَّدَقةٌ تطْفِيءُ الخَطِيئة كما يُطْفِيءُ المَاءُ النَّار ، وصلاةُ الرَّجُلِ منْ جوْفِ اللَّيْلِ » ثُمَّ تَلا : {تتجافى جُنُوبهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ } حتَّى بلَغَ { يعْمَلُونَ } [ السجدة : 16 ] . ثُمَّ قال: « ألا أُخْبِرُكَ بِرَأسِ الأمْرِ ، وعمودِهِ ، وذِرْوةِ سَنامِهِ » قُلتُ : بَلى يا رسول اللَّهِ : قَالَ : « رأْسُ الأمْرِ الإسْلامُ ، وعَمُودُهُ الصَّلاةُ . وذروةُ سنامِهِ الجِهَادُ » ثُمَّ قال : « ألا أُخْبِرُكَ بـِمِلاكِ ذلكَ كله ؟» قُلْتُ : بَلى يا رسُولَ اللَّهِ . فَأَخذَ بِلِسَانِهِ قالَ : « كُفَّ علَيْكَ هذا » قُلْتُ: يا رسُولَ اللَّهِ وإنَّا لمُؤَاخَذون بمَا نَتَكلَّمُ بِهِ ؟ فقَال : ثَكِلتْكَ أُمُّكَ ، وهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النَّارِ على وَجُوهِهِم إلاَّ حصَائِدُ ألْسِنَتِهِمْ ؟ » .رواه الترمذي وقال : حدِيثٌ حسنٌ صحيحٌ ، وقد سبق شرحه .

وعنْ أبي هُرَيرةَ رضي اللَّه عنهُ أنَّ رسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : « أَتَدْرُونَ ما الغِيبةُ؟» قَالُوا : اللَّه ورسُولُهُ أَعْلَمُ . قال : « ذِكرُكَ أَخَاكَ بما يكْرَهُ » قِيل : أَفرأيْتَ إن كان في أخِي ما أَقُولُ ؟ قَالَ : « إنْ كانَ فِيهِ ما تقُولُ فَقَدِ اغْتَبْته ، وإنْ لَمْ يكُن فِيهِ ما تَقُولُ فَقَدْ بهتَّهُ » رواه مسلم .

وعنْ أبي بكْرةَ رضي اللَّه عنْهُ أنَّ رسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال في خُطْبتِهِ يوْم النَّحر بِمنىً في حجَّةِ الودَاعِ : « إنَّ دِماءَكُم ، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هذا ، في شهرِكُمْ هذا ، في بلَدِكُم هذا ، ألا هَلْ بلَّغْت » متفقٌ عليه .

وعنْ عائِشة رضِي اللَّه عنْها قَالَتْ : قُلْتُ للنبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم حسْبُك مِنْ صفِيَّة كذا وكَذَا قَال بعْضُ الرُّواةِ : تعْني قَصِيرةٌ ، فقال : « لقَدْ قُلْتِ كَلِمةً لو مُزجتّ بماءِ البحْر لمَزَجتْه ، » قَالَتْ : وحكَيْتُ له إنساناً فقال : « ما أحِبُّ أني حكَيْتُ إنْساناً وإنَّ لي كذا وَكَذَا » رواه أبو داود ، والترمذي وقال : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ .
ومعنى : « مزَجَتْهُ » خَالطته مُخَالَطة يَتغَيَّرُ بهَا طَعْمُهُ ، أوْ رِيحُهُ لِشِدةِ نتنها وقبحها ، وهَذا مِنْ أبلغَ الزَّواجِرِ عنِ الغِيبَةِ ، قَال اللَّهُ تَعالى : { وما ينْطِقُ عنِ الهَوى ، إن هُوَ إلا وحْيٌّ يوحَى } [ النجم : 4 ] .

وَعَنْ أنَسٍ رضي اللَّه عنهُ قالَ : قَالَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « لمَّا عُرِجَ بي مررْتُ بِقَوْمٍ لهُمْ أظْفَارٌ مِن نُحاسٍ يَخمِشُونَ بهَا وجُوهَهُمُ وَصُدُورَهُم ، فَقُلْتُ : منْ هؤلاءِ يَا جِبْرِيل ؟ قَال : هؤلاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُوم النَّاسِ ، ويَقَعُون في أعْراضِهمْ ، » رواهُ أبو داود.


وعن أبي هُريْرة رضي اللَّه عنْهُ أنَّ رسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قَالَ : « كُلُّ المُسلِمِ عَلى المُسْلِمِ حرَامٌ : دَمُهُ وعِرْضُهُ وَمَالُهُ » رواهُ مسلم .

باب تحريم سماع الغيبة
وأمر من سمع غيبة محرَّمة بردِّها ، والإِنكار على قائلها
فإن عجز أو لم يقبل منه فارق ذلك المجلس إن أمكنه

قال اللَّه تعالى: "وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه".
وقال تعالى: "والذين هم عن اللغو معرضون".
وقال تعالى: "إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً". 
وقال تعالى: { وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره، وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين } .

وعنْ أبي الدَّرْداءِ رضي اللَّه عَنْهُ عنِ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قالَ : « منْ ردَّ عَنْ عِرْضِ أخيهِ، ردَّ اللَّه عنْ وجْههِ النَّارَ يوْمَ القِيَامَةِ » رواه الترمذي وقالَ : حديثٌ حسنٌ .

وعنْ عِتْبَانَ بنِ مالِكٍ رضي اللَّهُ عنْهُ في حدِيثِهِ الطَّويلِ المشْهورِ الَّذي تقدَّم في باب الرَّجاءِ قَالَ : قامَ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يُصلِّي فَقال : « أيْنَ مالِكُ بنُ الدُّخْشُمِ ؟ » فَقَال رجل: ذلكَ مُنافِقٌ لا يُحِبُّ اللَّه ورسُولَهُ ، فَقَال النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « لا تقُلْ ذلكَ ، ألا تَراه قد قَال : لا إلهَ إلاَّ اللًه يُريدُ بذلك وجْه اللَّه ، وإن اللَّه قدْ حَرَّمَ على النَّارِ منْ قال : لا إله إلاَّ اللَّه يبْتَغِي بِذلكَ وجْهَ اللَّه » متفقٌ عليه .
«
وعِتبانُ » بكسر العين على المشهور ، وحُكِي ضمُّها ، وبعدها تاء مثناةٌ مِنْ فوق ، ثُمَّ باء موحدةٌ . و « الدُّخْشُمُ » بضم الدال وإسكان الخاءِ وضمِّ الشين المعجمتين .

وعَنْ كعْبِ بنِ مالكٍ رضي اللَّه عَنْهُ في حدِيثِهِ الطَّويلِ في قصَّةِ توْبَتِهِ وقد سبقَ في باب التَّوْبةِ . قال : قال النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وهُو جَالِسٌ في القَوْم بِتبُوكَ : « ما فعل كَعْبُ بنُ مالك ؟ » فقالَ رجُلٌ مِنْ بَني سلِمَةَ : يا رسُولَ اللَّه حبسهُ بُرْداهُ ، والنَّظَرُ في عِطْفيْهِ . فقَال لَهُ معاذُ بنُ جبلٍ رضي اللَّه عنْه : بِئس ما قُلْتَ ، واللَّهِ يا رسُولَ اللَّهِ ما عَلِمْنا علَيْهِ إلاَّ خيْراً ، فَسكَتَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم .متفق عليه .
«
عِطْفَاهُ » جانِباهُ ، وهو إشارةٌ إلى إعجابه بنفسهِ .

باب بيان ما يُباح من الغيبة

اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهو ستة أسباب:
الأول التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم إلى السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية أو قدرة على إنصافه من ظالمه، فيقول: ظلمني فلان بكذا.
الثاني الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا فازجره عنه، ونحو ذلك، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حراماً.
الثالث الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي أو زوجي أو فلان بكذا فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه وتحصيل حقي ودفع الظلم؟ ونحو ذلك فهذا جائز للحاجة، ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا؟ فإنه يحصل به الغرض من غير تعيين، ومع ذلك فالتعيين جائز كما سنذكره في حديث هند (
الرابع تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه؛ منها جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب للحاجة. ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو إيداعه أو معاملته أو غير ذلك أو مجاورته، ويجب على المشاوَر أن لا يخفي حاله بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة. ومنها إذا رأى متفقهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق يأخذ عنه العلم وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يُغلط فيه، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد ويلبِّس الشيطان عليه ذلك ويخيل إليه أنه نصيحة فليُتَفطن لذلك. ومنها أن يكون له ولاية لا يقوم بها على وجهها، إما بأن لا يكون صالحاً لها، وإما بأن يكون فاسقاً أو مغفلاً ونحو ذلك، فيجب ذكر ذلك لمن له عليه ولاية عامة ليزيله ويولي من يصلح، أو يعلم ذلك منه ليعامله بمقتضى حاله ولا يغتر به، وأن يسعى في أن يحثه على الاستقامة أو يستبدل به.
الخامس أن يكون مجاهراً بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر، ومصادرة الناس وأخذ المكس وجباية الأموال ظلماً وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجوازه سبب آخر مما ذكرناه.
السادس التعريف، فإذا كان الإنسان معروفاً بلقب كالأعمش والأعرج والأصم والأعمى والأحول وغيرهم جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك كان أولى.
فهذه ستة أسباب ذكرها العلماء وأكثرها مجمع عليه. ودلائلها من الأحاديث الصحيحة المشهورة؛ فمن ذلك:

عَنْ عَائِشَةَ رضي اللَّه عَنْهَا أن رَجُلاً استأْذَن عَلى النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فقَالَ : « ائذَنُوا لهُ، بئس أخو العشِيرَةِ ؟ » متفقٌ عليه .
احْتَجَّ بهِ البخاري في جَوازِ غيبةِ أهلِ الفسادِ وأهلِ الرِّيبِ .

وعنْهَا قَالَتْ : قَالَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « مَا أَظُن فُلاناً وفُلاناً يعرِفَانِ مِنْ ديننا شَيْئاً » رواه البخاريُّ . قال الليثُ بنُ سعْدٍ أحدُ رُواةِ هذا الحَدِيثِ : هذَانِ الرَّجُلانِ كَانَا مِنَ المُنَافِقِينَ .

وعنْ فَاطِمةَ بنْتِ قَيْسٍ رضي اللَّه عَنْها قَالَتْ : أَتيْتُ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، فقلت : إنَّ أبا الجَهْمِ ومُعاوِيةَ خَطباني ؟ فقال رسول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « أمَّا مُعَاوِيةُ ، فَصُعْلُوكٌ لا مالَ له ، وأمَّا أبو الجَهْمِ فلا يضَعُ العَصا عنْ عاتِقِهِ » متفقٌ عليه .
وفي روايةٍ لمسلمٍ : « وأمَّا أبُو الجَهْمِ فضَرَّابُ للنِّساءِ » وهو تفسير لرواية : « لا يَضَعُ العَصا عَنْ عاتِقِهِ » وقيل : معناه : كثيرُ الأسفارِ .

وعن زيْد بنِ أرْقَمَ رضي اللَّه عنهُ قال : خَرجْنَا مع رسولِ اللِّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم في سفَرٍ أصاب النَّاس فيهِ شِدةٌ ، فقال عبدُ اللَّه بنُ أبي : لا تُنْفِقُوا على منْ عِنْد رسُولِ اللَّه حتى ينْفَضُّوا وقال : لَئِنْ رجعْنَا إلى المدِينَةِ ليُخرِجنَّ الأعزُّ مِنْها الأذَلَّ ، فَأَتَيْتُ رسول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فَأَخْبرْتُهُ بِذلكَ ، فأرسلَ إلى عبد اللَّه بن أبي فَاجْتَهَد يمِينَهُ : ما فَعَل ، فقالوا : كَذَب زيدٌ رسولَ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، فَوقَع في نَفْسِي مِمَّا قالوهُ شِدَّةٌ حتى أنْزَل اللَّه تعالى تَصْدِيقي: { إذا جاءَك المُنَافِقُون } ثم دعاهم النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، لِيَسْتغْفِرَ لهم فلَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ . متفقٌ عليه .

وعنْ عائشةَ رضي اللَّه عنها قالتْ : قالت هِنْدُ امْرأَةُ أبي سُفْيانَ للنبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : إنَّ أبا سُفيانَ رجُلٌ شَحِيحُ ولَيْس يُعْطِيني ما يَكْفِيني وولَدِي إلاَّ ما أخَذْتُ مِنه ، وهَو لا يعْلَمُ ؟ قال : « خُذِي ما يكْفِيكِ ووَلَدَكِ بالمعْرُوفِ » متفقٌ عليه .

باب تحريم النميمة
وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الإِفساد

قال اللَّه تعالى:  "هماز مشاء بنميم". 
وقال تعالى "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".

وعَنْ حذَيْفَةَ رضي اللَّه عنهُ قالَ : قال رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « لا يَدْخُلُ الجنةَ نمَّامٌ» متفقٌ عليه .

وعَنْ ابن عَباسٍ رضي اللَّه عَنْهُمَا أنَّ رَسُول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : مرَّ بِقَبريْنِ فقال : «إنَّهُمَا يُعَذَّبان ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبيرٍ ، بَلى إنَّهُ كَبيرٌ : أمَّا أحَدُهمَا ، فَكَانَ يمشِي بالنَّمِيمَةِ، وأمَّا الآخرُ فَكَانَ لا يسْتَتِرُ مِنْ بولِه » .
متفقٌ عليه ، وهذا لفظ إحدى روايات البخاري .
قالَ العُلَماءُ : معْنَى: «وما يُعَذَّبَانِ في كَبيرٍ» أيْ كبير في زَعْمِهما وقيلَ: كَبِيرٌ تَرْكُهُ عَلَيهما.

وعن ابن مسْعُودٍ رضي اللَّه عنْهُ أنَّ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : « ألا أُنَبِّئكُم ما العَضْهُ ؟ هي النَّمِيمةُ ، القَالَةُ بيْنَ النَّاسِ » رواه مسلم .
«
العَضْهُ » : بفَتْح العين المُهْمَلَةِ ، وإسْكان الضَّادِ المُعْجَمَةِ ، وبالهاءِ على وزنِ الوجهِ، ورُوي : « العِضَةُ » بِكسْرِ العَيْنِ و فَتْحِ الضَّادِ المُعْجَمَةِ عَلى وَزْنِ العِدَةِ ، وهِي : الكذِبُ والبُهتانُ ، وعَلى الرِّواية الأولى : العَضْهُ مصدرٌ ، يقال : عَضَهَهُ عَضْهاً ، أي : رماهُ بالعَضْهِ .

باب النهي عن نَقْل الحديثِ وكلام الناس
إلى ولاة الأمورِ إذا لم تدْعُ إليه حاجةٌ كَخَوفِ مفسدةٍ ونحوها

قال اللَّه تعالى: "ولا تعاونوا على الإثم والعدوان".
وفي الباب الأحاديث السابقة في الباب قبله.

وعن ابن مَسْعُودٍ رضي اللَّه عنهُ قالَ : قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « لا يُبَلِّغْني أحدٌ من أصْحابي عنْ أحَدٍ شَيْئاً ، فَإنِّي أُحِبُّ أنْ أَخْرُجَ إِليْكُمْ وأنا سليمُ الصَّدْرِ » رواه أبو داود والترمذي .

باب ذم ذي الوجهين

قال اللَّه تعالى:"يستخفون من الناس ولا يستخفون من اللَّه وهو معهم، إذ يبيتون ما لا يرضى من القول، وكان اللَّه بما يعملون محيطاً" الآيتين.

وعن أبي هُريرةًَ رضي اللَّه عَنْهُ قالَ : قالَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « تَجدُونَ النَّاسَ معادِنَ : خِيارُهُم في الجاهِليَّةِ خيارُهُم في الإسْلامِ إذا فَقُهُوا ، وتجدُونَ خِيارَ النَّاسِ في هذا الشَّأنِ أشدَّهُمْ لهُ كَراهِيةً ، وتَجدُونَ شَرَّ النَّاسِ ذا الوجْهيْنِ ، الذي يأتي هؤلاءِ بِوجْهِ وَهؤلاءِ بِوَجْهِ » متفقٌ عليه .

وعنْ محمدِ بن زَيْدٍ أنَّ نَاسًا قَالُوا لجَدِّهِ عبدِ اللَّه بنِ عُمْرو رضي اللَّه عنْهما : إنَّا نَدْخُلُ عَلَى سَلاطِيننا فنقولُ لهُمْ بِخلافِ ما نتكلَّمُ إذَا خَرَجْنَا مِنْ عِندِهِمْ قال : كُنًا نعُدُّ هذا نِفَاقاً عَلى عَهْدِ رسولِ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم . رواه البخاري .

باب تحريم الكذب

قال اللَّه تعالى :"ولا تقف ما ليس لك به علم".
وقال تعالى: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".

وعنْ ابنِ مسعود رضي اللَّه عنْهُ قال : قالَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « إنًَّ الصِّدْقَ يهْدِي إلى الْبِرِّ وَإنَّ البرِّ يهْدِي إلى الجنَّةِ ، وإنَّ الرَّجُل ليَصْدُقُ حتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدّيقاً، وإنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ وإنَّ الفُجُورًَ يهْدِي إلى النارِ ، وإن الرجلَ ليكذبَ حَتى يُكْتبَ عنْدَ اللَّهِ كَذَّاباً » متفقٌ عليه
.

وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمْرو بنِ العاص رضي اللَّه عنْهُما ، أنَّ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : «أَرْبعٌ منْ كُنَّ فِيهِ ، كان مُنافِقاً خالِصاً ، ومنْ كَانتْ فيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ ، كَانتْ فِيهِ خَصْلةٌ مِنْ نِفاقٍ حتَّى يَدعَهَا : إذا اؤتُمِنَ خَانَ ، وَإذا حدَّثَ كَذَبَ ، وإذا عاهَدَ غَدَرَ ، وإذا خَاصمَ فجَرَ » متفقٌ عليه .
وقد سبقَ بيانه مع حديثِ أبي هُرَيْرَةَ بنحوهِ في « باب الوفاءِ بالعهد » .

وعن ابن عباسٍ رضي اللَّه عنْهُما عن النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم ، قالَ : « مَنْ تَحَلَّمَ بِحُلْمٍ لمْ يرَهُ ، كُلِّفَ أنْ يَعْقِدَ بيْن شَعِيرتينِ ، ولَنْ يفْعَلَ ، ومِنِ اسْتَمَع إلى حديثِ قَوْم وهُمْ لهُ كارِهُونَ، صُبَّ في أُذُنَيْهِ الآنُكُ يَوْمَ القِيامَةِ ، ومَنْ صوَّر صُورةً ، عُذِّبَ وَكُلِّفَ أنْ ينفُخَ فيها الرُّوحَ وَليْس بِنافخٍ » رواه البخاري .
«
تَحلَّم » أي : قالَ أنهُ حَلم في نَوْمِهِ ورَأى كَذا وكَذا ، وهو كاذبٌ و « الآنك » بالمدِّ وضمِّ النونِ وتخفيفِ الكاف : وهو الرَّصَاصُ المذابُ .

وعن ابنِ عُمرَ رضي اللَّه عنْهُما قالَ : قال النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « أفْرَى الفِرَى أنْ يُرِيَ الرجُلُ عيْنَيْهِ ما لَمْ تَرَيا » .
رواهُ البخاري . ومعناه : يقولُ : رأيتُ فيما لم يره .

وعن سَمُرَةَ بنِ جُنْدُبٍ رضي اللَّه عَنْهُ قالَ : كانَ رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم مِما يُكْثِرُ أنْ يقولَ لأصحابهِ : « هَلْ رَأَى أحدٌّ مِنكُمْ مِن رؤيا؟» فيقُصُّ عليهِ منْ شَاءَ اللَّه أنْ يقُصَّ . وَإنَّهُ قال لنا ذات غَدَاةٍ : « إنَّهُ أتَاني اللَّيْلَةَ آتيانِ ، وإنَّهُما قالا لي : انطَلقْ ، وإنِّي انْطلَقْتُ معهُما ، وإنَّا أتَيْنَا عَلى رجُلٍ مُضْطَجِعٌ ، وإِذَا آَخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ ، وإِذَا هُوَ يَهْوي بالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ ، فَيثْلَغُ رَأْسهُ ، فَيَتَدَهْدهُُ الحَجَرُ هَاهُنَا . فيتبعُ الحَجَرَ فيأْخُـذُهُ ، فلا يَرجِعُ إلَيْه حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كما كان ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ ، فَيفْعلُ بهِ مِثْلَ ما فَعَل المَرَّةَ الأولى،» قال : قلتُ لهما : سُبْحانَ اللَّهِ ، ما هذانِ ؟ قالا لي : انْطَلِقْ انْطَلِقْ، فانْطَلَقْنا. فأَتيْنَا عَلى رَجُل مُسْتَلْقٍ لقَفَاه وَإذا آخَرُ قائمٌ عليهِ بكَلُّوبٍ مِنْ حَديدٍ ، وإذا هُوَ يَأْتى أحَد شِقَّيْ وَجْهِهِ فيُشَرْشِرُ شِدْقَهُ إلى قَفاهُ ، ومنْخِرهُ إلى قَفَاهُ ، وَعينَهُ إلى قَفاهُ ، ثُمَّ يتَحوَّل إلى الجانبِ الآخرِ فَيَفْعَل بهِ مثْلَ ما فعلًَ بالجانب الأول ، فَما يَفْرُغُ مِنْ ذلكَ الجانب حتَّى يصِحَّ ذلكَ الجانِبُ كما كانَ ، ثُمَّ يَعُودُ عليْهِ ، فَيَفْعَل مِثْلَ ما فَعلَ في المَرَّةِ الأولى . قال : قلتُ: سُبْحَانَ اللَّه ، ما هذان ؟ قالا لي : انْطلِقْ انْطَلِقْ ، فَانْطَلَقْنَا . فَأتَيْنا عَلى مِثْل التَّنُّورِ فَأَحْسِبُ أنهُ قال : فإذا فيهِ لَغَطٌ ، وأصْواتٌ ، فَاطَّلَعْنا فيهِ فَإِذَا فِيهِ رجالٌ ونِساء عُرَاةٌ ، وإذا هُمْ يأتِيهمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفلِ مِنْهُمْ ، فإذا أتَاهُمْ ذلكَ اللَّهَبُ ضَوْضَؤُوا ، قلتُ ما هؤلاءِ ؟ قالا لي : انْطَلِقْ انْطَلِقْ ،فَانْطَلقْنَا. فَأَتيْنَا على نهرٍ حسِبْتُ أَنهُ كانَ يقُولُ : « أَحْمرُ مِثْلُ الدًَّمِ ، وإذا في النَّهْرِ رَجُلٌ سابِحٌ يَسْبحُ ، وَإذا على شَطِّ النَّهْرِ رجُلٌ قَد جَمَعَ عِندَهُ حِجارةً كَثِيرَة ، وإذا ذلكَ السَّابِحُ يسبح ما يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأتيْ ذلكَ الذي قَدْ جمَعَ عِنْدهُ الحِجارةًَ ، فَيَفْغَرُ لهَ فاهُ ، فَيُلْقِمُهُ حجراً ، فَيَنْطَلِقُ فَيَسْبَحُ ، ثُمًَّ يَرْجِعُ إليهِ ، كُلَّمَا رجع إليْهِ ، فَغَر فاهُ لهُ ، فَألْقمهُ حَجَراً ، قلت لهما : ما هذانِ ؟ قالا لي : انْطلِقْ انطلِق ، فانْطَلَقنا . فَأَتَيْنَا على رَجُلٍ كرِيِه المَرْآةِ ، أوْ كأَكرَهِ ما أنت رَاءٍ رجُلاً مَرْأَى ، فإذا هو عِندَه نارٌ يحشُّها وَيسْعى حَوْلَهَا ، قلتُ لهما : ما هذا ؟ قالا لي : انْطَلِقْ انْطلِقْ ، فَانْطَلقنا . فَأتَينا على روْضةٍ مُعْتَمَّةٍ فِيها مِنْ كلِّ نَوْرِ الرَّبيعِ ، وإذا بيْنَ ظهْرِي الرَّوضَةِ رَجلٌ طويلٌ لا أكادُ أرى رأسَهُ طُولاً في السَّماءِ ، وإذا حوْلَ الرجلِ منْ أكثر ولدان ما رَأَيْتُهُمْ قطُّ ، قُلتُ: ما هذا ؟ وما هؤلاءِ ؟ قالا لي : انطَلقْ انْطَلِقْ فَاَنْطَلقنا . فَأتيْنَا إلى دَوْحةٍ عظِيمَة لَمْ أر دَوْحةً قطُّ أعظمَ مِنها ، ولا أحْسنَ ، قالا لي : ارْقَ فيها، فَارتَقينا فيها ، إلى مدِينةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنٍ ذَهبٍ ولبنٍ فضَّةٍ ، فأتَينَا باب المَدينة فَاسْتفتَحْنَا، فَفُتحَ لَنا، فَدَخَلناهَا ، فَتَلَقَّانَا رجالٌ شَطْرٌ مِن خَلْقِهِم كأحْسنِ ما أنت راءٍ ، وشَطرٌ مِنهم كأَقْبحِ ما أنتَ راءِ ، قالا لهم : اذهبوا فقَعُوا في ذلك النًّهْر ، وإذا هُوَ نَهرٌ معتَرِضٌ يجْرِي كأن ماءَهُ المحضُ في البياض ، فذَهبُوا فوقعُوا فيه ، ثُمَّ رجعُوا إلينا قد ذَهَب ذلكَ السُّوءُ عَنهمْ ، فَصارُوا في أحسن صُورةٍ .قال : قالا لي : هذه جَنَّةُ عدْن ، وهذاك منزلُكَ ، فسمَا بصَرِي صُعداً ، فإذا قصر مِثلُ الرَّبابة البيضاءِ . قالا لي : هذاك منزِلُكَ . قلتُ لهما : بارك اللَّه فيكُما، فَذراني فأدخُلْه . قالا : أما الآن فلا ، وأنتَ داخلُهُ . قلت لهُما : فَإنِّي رأَيتُ مُنْذُ اللَّيلة عجباً ؟ فما هذا الذي رأيت ؟ قالا لي : إنَا سَنخبِرُك. أمَّا الرجُلُ الأوَّلُ الذي أتَيتَ عَليه يُثلَغُ رأسُهُ بالحَجَرِ ، فإنَّهُ الرَّجُلُ يأخُذُ القُرْآنَ فيرفُضُه ، وينامُ عن الصَّلاةِ الكتُوبةِ . وأمَّا الذي أتَيتَ عَليْهِ يُشرْشرُ شِدْقُه إلى قَفاهُ ، ومَنْخِرُه إلى قَفاهُ ، وعَيْنهُ إلى قفاهُ ، فإنه الرَّجُلُ يَغْدو مِنْ بَيْتِه فَيكذبُ الكذبةَ تبلُغُ الآفاقَ . وأمَّا الرِّجالُ والنِّساءُ العُراةُ الذين هُمْ في مِثل بِناءِ التَّنُّورِ ، فإنَّهم الزُّناةُ والزَّواني . وأما الرجُلُ الَّذي أتَيْت عليْهِ يسْبَحُ في النَهْرِ ، ويلْقمُ الحِجارة ، فإنَّهُ آكِلُ الرِّبا. وأمَّا الرَّجُلُ الكَريهُ المَرآةِ الذي عندَ النَّارِ يَحُشُّها ويسْعى حَوْلَها فإنَّهُ مالِكُ خازنُ جَهنَّمَ. وأما الرَّجُلُ الطَّويلُ الَّذي في الرَّوْضةِ ، فإنه إبراهيم ، وأما الوِلدانُ الذينَ حوْله ، فكلُّ مُوْلود ماتَ على الفِطْرَةِ » وفي رواية البَرْقَانِي : « وُلِد على الفِطْرَةِ » . فقال بعض المسلمينَ : يا رسول اللَّه ، وأولادُ المشرِكينَ ؟ فقال رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : «وأولادُ المشركينَ » . وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم قوم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم . رواه البخاري .
وفي رواية له : « رأيتُ اللَّيلَةَ رجُلَين أتَياني فأخْرجاني إلى أرْضِ مُقدَّسةِ » ثم ذكَره . وقال : « فانطَلَقْنَا إلى نَقبٍ مثل التنُّورِ ، أعْلاهُ ضَيِّقٌ وأسْفَلُهُ وَاسعٌ ، يَتَوَقَّدُ تَحتهُ ناراً، فإذا ارتَفَعت ارْتَفَعُوا حَتى كادُوا أنْ يَخْرُجوا ، وإذا خَمَدت ، رَجَعوا فيها ، وفيها رجالٌ ونساء عراةٌ . وفيها : حتى أتَينَا على نَهرٍ من دًَم ، ولم يشك ¬ فيه رجُلٌ قائمٌ على وسط النًَّهرِ ، وعلى شطِّ النَّهر رجُلٌ ، وبيْنَ يديهِ حجارةٌ ، فأقبل الرَّجُلُ الذي في النَّهرِ ، فَإذا أراد أنْ يخْرُجَ ، رمَى الرَّجُلُ بِحجرٍ في فِيه ، فردَّهُ حيْثُ كانَ ، فجعلَ كُلَّمَا جاءَ ليخْرج جَعَلَ يَرْمي في فيه بحجرٍ ، فيرْجِعُ كما كانَ .وفيهَا : « فصعدا بي الشَّجَرةَ ، فَأدْخلاني داراً لَمْ أر قَطُّ أحْسنَ منْهَا ، فيها رجالٌ شُيُوخٌ وَشَباب » . وفِيهَا : « الَّذي رأيْتهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فكَذَّابٌ ، يُحدِّثُ بالْكذبةِ فَتُحْملُ عنْهَ حتَّى تَبْلُغَ الآفاق، فيصْنَعُ بهِ ما رأيْتَ إلى يوْم الْقِيامةِ » . وفيها : « الَّذي رأيْتهُ يُشْدَخُ رأسُهُ فرجُلُ علَّمهُ اللَّه الْقُرآنَ ، فنام عنهُ بِاللَّيْلِ ، ولَمْ يعْملْ فيه بِالنَّهَارِ ، فيُفْعلُ بِه إلى يوم الْقِيامةِ » . والدَّارُ الأولى التي دخَلْتَ دارُ عامَّةِ المُؤمنينَ ، وأمَّا هذه الدَّارُ فدَارُ الشُّهَداءِ ، وأنا جِبْريلُ ، وهذا مِيكائيلُ ، فارْفع رأسَك ، فرفعتُ رأْسي ، فإذا فوقي مِثلُ السَّحابِ ، قالا: ذاكَ منزلُكَ ، قلتُ : دَعاني أدْخُلْ منزلي ، قالا : إنَّهُ بَقي لَكَ عُمُرٌ لَم تَستكمِلْهُ ، فلَوْ اسْتَكْملته ، أتيت منْزِلَكَ » رواه البخاري .
قوله : « يَثْلَغ رَأْسهُ » وهو يالثاءِ المثلثة والغينِ المعجمة ، أي : يشدخُهُ ويَشُقُّه . قوله: « يَتَدهْده » أي : يتدحرجُ ، و « الكَلُّوبُ » بفتح الكاف ، وضم اللام المشددة ، وهو معروف . قوله : « فيُشَرشِرُ » أي : يُقَطَّعُ . قوله : « ضوْضَوؤوا » وهو بضادين معجمتين ، أي صاحوا . قوله : « فيفْغَرُ » هو بالفاءِ والغين المعجمة ، أي : يفتحُ . قوله: « المرآةِ » هو بفتح الميم ، أي : المنْظَر . قوله : « يحُشُّها » هو بفتح الياء وضم الحاءِ المهملة والشين المعجمة ، أي : يوقدها ، قوله : « روْضَةٍ مُعْتَمَّةِ » هو بضم الميم وإسكان العين وفتح التاء وتشديد الميم ، أي : وافيةِ النَّبات طويلَته . قَولُهُ : « دوْحَةٌ » وهي بفتح الدال ، وإسكان الواو وبالحاءِ المهملة : وهِي الشَّجرَةُ الْكبيرةُ ، قولُهُ : «المَحْضُ » هو بفتح الميم وإسكان الحاءِ المهملة وبالضَّاد المعجمة : وهُوَ اللَّبَنُ . قولُهُ : «فَسَما بصرِي » أي : ارْتَفَعَ . « وَصُعُداً » : بضم الصاد والعين : أيْ : مُرْتَفِعاً . «وَالرَّبابةُ » : بفتح الراءِ وبالباءِ الموحدة مُكررة ، وهي السَّحابة .

باب بيان ما يجوز من الكذب

إْعْلَمْ أنَّ الْكَذب، وَإنْ كَانَ أصْلُهُ مُحرَّماً، فيَجُوزُ في بعْض الأحْوالِ بشرُوطٍ قد أوْضَحْتُهَا في كتاب: «الأذْكارِ» ومُخْتَصَرُ ذلك أنَّ الكلامَ وسيلةٌ إلى المقاصدِ ، فَكُلُّ مَقْصُودٍ محْمُودٍ يُمْكِن تحْصيلُهُ بغَيْر الْكَذِبِ يَحْرُمُ الْكذِبُ فيه، وإنْ لَمْ يُمكِنْ تحصيله إلاَّ بالكذبِ جاز الْكذِبُ. ثُمَّ إن كانَ تَحْصِيلُ ذلك المقْصُودِ مُباحاً كَانَ الْكَذِبُ مُباحاً ، وإنْ كانَ واجِباً ، كان الكَذِبُ واجِباً ، فإذا اخْتَفي مُسْلمٌ مِن ظالمٍ يريد قَتلَه ، أوْ أخْذَ مالِه ، وأخَفي مالَه ، وسُئِل إنسانٌ عنه ، وجب الكَذبُ بإخفائِه ، وكذا لو كانَ عِندهُ وديعة ، وأراد ظالِمٌ أخذَها، وجب الْكَذِبُ بإخفائها ، والأحْوطُ في هذا كُلِّه أنْ يُوَرِّي ، ومعْنَى التَّوْرِيةِ : أن يقْصِد بِعبارَتِه مَقْصُوداً صَحيحاً ليْسَ هو كاذِباً بالنِّسّبةِ إلَيْهِ ، وإنْ كانَ كاذِباً في ظاهِرِ اللًّفظِ ، وبِالنِّسْبةِ إلى ما يفهَمهُ المُخَاطَبُ ولَوْ تَركَ التَّوْرِيةَ وَأطْلَق عِبارةَ الكذِبِ ، فليْس بِحرَامٍ في هذا الحَالِ .
واسْتَدلَّ الْعُلَماءُ بجَوازِ الكَذِب في هذا الحَال بحدِيث أمِّ كُلْثومٍ رضي اللَّه عنْهَا أنَّها سَمِعَتْ رسول اللَْه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم يقولُ : « لَيْس الكَذَّابُ الَّذي يُصلحُ بيْنَ النَّاسِ ، فينمِي خَيْراً أو يقولُ خَيْراً » متفقٌ عليه .
زاد مسلم في رواية : « قالت : أمُّ كُلْثُومٍ : ولَم أسْمعْهُ يُرْخِّصُ في شَيءٍ مِمَّا يقُولُ النَّاسُ إلاَّ في ثلاثٍ : تَعْني : الحَرْبَ ، والإصْلاحَ بيْن النَّاسِ ، وحديثَ الرَّجُلَ امْرَأَتَهُ ، وحديث المرْأَةِ زوْجَهَا .

باب الحثَّ على التثُّبت فيما يقوله ويحكيه

قال اللَّه تعالى :"ولا تقف ما ليس لك به علم".
وقال تعالى: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".


وعنْ أبي هُريْرة رضي اللَّه عنْهُ أنَّ النبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : « كفي بالمَرءِ كَذِباً أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سمعِ » رواه مسلم .

وعن سمُرة رضي اللَّه عنْهُ قال : قال رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « منْ حدَّث عنِّي بِحَدِيثٍ يرَى أنَّهُ كذِبٌ ، فَهُو أحدُ الكَاذِبين » رواه مسلم .

وعنْ أسماءَ رضي اللَّه عنْها أن امْرأة قالَتْ : يا رَسُول اللَّه إنَّ لي ضرَّةَ فهل علَيَّ جناحٌ إنْ تَشبعْتُ من زوجي غيْرَ الذي يُعطِيني ؟ فقال النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « المُتشبِّعُ بِما لـم يُعْطَ كَلابِس ثَوْبَي زُورٍ » متفقٌ عليه .
المُتشبِّعُ : هو الذي يُظهرُ الشَّبع وليس بشبعان ، ومعناها هُنا : أنَّهُ يُظهرُ أنه حَصلَ له فضِيلةٌ وليْستْ حاصِلة . « ولابِس ثَوْبي زورٍ » أي : ذِي زُورٍ ، وهو الذي يزَوِّرُ على النَّاس ، بأن يَتَزَيَّى بِزيِّ أهل الزُّهدِ أو العِلم أو الثرْوةِ ، ليغْترَّ بِهِ النَّاسُ وليْس هو بِتِلك الصِّفةِ ، وقيل غَيْرُ ذلك واللَّه أعلم .

باب بيان غلظ تحريم شهادة الزور

قال اللَّه تعالى: "واجتنبوا قول الزور".
قال اللَّه تعالى: "ولا تقف ما ليس لك به علم".
وقال تعالى :"ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".
وقال تعالى: "إن ربك لبالمرصاد".
وقال تعالى:"والذين لا يشهدون الزور".

وعن أبي بكْرةَ رضي اللَّه عَنْهُ قال : قالَ رسولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « ألا أُنبِّئكُم بأكبر الكَبائِر ؟ قُلنَا : بَلَى يا رسول اللَّهِ . قَالَ : « الإشراكُ باللَّه ، وعُقُوقُ الوالِديْنِ » وكان مُتَّكِئا فَجلَس ، فقال : « ألا وقَوْلُ الزُّورِ ، وشهادةُ الزورِ » فما زال يُكَرِّرُهَا حتى قلنا : لَيْتَهُ سكَت . متفق عليه .

باب تحريم لَعْن إنسان بعَينه أو دابة

عن أبي زيْدٍ ثابتِ بنِ الضَّحاكِ الأنصاريِّ رضي اللَّه عنهُ ، وهو من أهْل بيْعةِ الرِّضوانِ قال : قَالَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « من حَلَف عَلى يمِينٍ بِملَّةٍ غيْرٍ الإسْلامِ كاذباً مُتَعَمِّداً، فهُو كما قَالَ ، ومنْ قَتَل نَفسهُ بشيءٍ ، عُذِّب بِهِ يوْم القِيامةِ ، وَليْس على رجُلٍ نَذْرٌ فِيما لا يَملِكهُ ، ولعنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ » متفقٌ عليه .

وعنْ أبي هُريْرةَ رضي اللَّه عنهُ أنَّ رسُول اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال : « لا ينْبغِي لِصِدِّيقٍ أنْ يكُونَ لَعَّاناً » رواه مسلم .

وعنْ أبي الدَّردَاءِ رضي اللَّه عَنْهُ قال : قالَ رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « لا يكُونُ اللَّعَّانُون شُفعَاءَ ، ولا شُهَدَاءَ يوْمَ القِيامَةِ » رواه مسلم .


وعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رضي اللَّه عنْهُ قالَ : قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « لا تَلاعنُوا بلعنةِ اللَّه ، ولا بِغضبِهِ ، ولا بِالنَّارِ » رواه أبو داود ، والترمذي وقالا : حديثٌ حسنٌ صحيحٌ .

وعن ابن مسعودٍ رضي اللَّه عنهُ قال : قال رسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « لَيْس المؤمِنُ بِالطَّعَّانِ ، ولا اللَّعَّانِ ولا الفَاحِشِ ، ولا البذِيِّ » رواه الترمذي وقالَ : حديثٌ حسنٌ .

وعنْ أبي الدَّرْداءِ رضي اللَّه عنهُ قال : قال رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : إنَّ العبْد إذا لَعنَ شَيْئاً ، صعِدتِ اللَّعْنةُ إلى السَّماء ، فتُغْلَقُ أبْوابُ السَّماءِ دُونَها ، ثُمَّ تَهبِطُ إلى الأرْضِ ، فتُغلَقُ أبوابُها دُونَها ، ثُّمَّ تَأخُذُ يميناً وشِمالا ، فإذا لمْ تَجِدْ مساغاً رجعت إلى الذي لُعِنَ ، فإنْ كان أهلاً لِذلك ، وإلاَّ رجعتْ إلى قائِلِها » رواه أبو داود .

وعنْ عِمْرَانَ بنِ الحُصيْنِ رضي اللَّه عنْهُما قال : بينَما رسُولُ اللَّه صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم في بعضِ أسْفَارِهِ ، وامرأَةٌ مِنَ الأنصارِ عَلى نَاقَةٍ ، فضجِرَتْ فَلَعَنَتْهَا ، فَسمع ذلكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم فقالَ : « خُذوا ما عليها ودعُوها ، فإنَّها ملعُونَةٌُ » قالَ عِمرَانُ : فكَأَنِّي أرَاهَا الآنَ تمشي في النَّاسِ ما يعرِضُ لهَا أحدٌ . رواه مسلم .

وعن أبي برّزَةَ نَضلَةَ بْنِ عُبيْدٍ الأسلمِيِّ رضي اللَّه عنْهُ قال : بينما جاريةٌ على ناقَةٍ علَيها بعضُ متَاع القَوْمِ ، إذْ بَصُرَتْ بالنبيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم وتَضايَقَ بهمُ الجَبلُ ، فقالتْ : حَلْ ، اللَّهُم العنْها فقال النبيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم : « لا تُصاحِبْنا نَاقَةٌ عليها لعْنةٌ » رواه مسلم .
قوله : « حلْ » بفتح الحاءِ المُهملةِ ، وإسكان اللاَّم ، وهَي كلِمةٌ لزَجْرِ الإبلِ.
واعْلَم أنًَّ هذا الحديث قد يُسْتَشْكلُ معْنَاهُ ، وَلا إشْكال فيه ، بل المُرادُ النَّهيُ أنْ تُصاحِبَهُمُ تِلك النَّاقَةُ ، وليس فيه نهيٌ عن بيْعِها وذَبْحِهَا وَرُكُوبِها في غَيْرِ صُحْبةِ النبي صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بلْ كُلُّ ذلك وَما سوَاهُ منَ التَّصرُّفاتِ جائِزٌ لا منْع مِنْه ، إلاَّ مِنْ مُصاحبَتِهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم بِها ، لأنَّ هذِهِ التَّصرُّفاتِ كُلِّهَا كانتْ جائزة فمُنع بْعضٌ مِنْها ، فبَقِي الباقِي على ما كَانَ . واللَّه أعْلَمُ.