في ذكرى أوسلو المشؤوم

حجم الخط

بقلم: راسم عبيدات

 

لم يكن اتفاق "اوسلو" المشؤوم سوى تعبير عن حالة هزيمة فلسطينية وعربية واختلال كبير في ميزان القوى، ونتاج تسرّع البعض في الساحة الفلسطينية لاستثمار سياسي متسرع أيضاً لمنجزات إنتفاضة الحجر الفلسطيني 1987- 1988. فأوسلو فكك المشروع والقضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، وقسّم الأرض والشعب جغرافياً ومجتمعياً ووطنياً، واجّل قضايا القدس والأسرى واللاجئين التي ندفع ثمنها حتى الآن.

فالقدس تتعرّض لعملية تهويد وأسرلة غير مسبوقتين، حيث سياسة التطهير العرقي وعملية التهجير القسري بحق المقدسيين مستمرة ومتواصلة، ونشهد بعد قرار المتصهين ترامب وإدارته بنقل السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس والاعتراف بها عاصمة لدولة الإحتلال "تغولاً" غير مسبوق على وجودنا وحقوق شعبنا في المدينة.

والأسرى من الداخل الفلسطيني - 48 - ومعهم أسرى القدس دخل العشرات منهم موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية، فهل يعقل أن يبقى أسير في السجن مدة تجاوزت الثلاثين عاماً؟

ورغم كل مساوىء أوسلو ومثالبه قام الإحتلال بسحقه وتدميره تحت جنازير دباباته عندما اقتحم الضفة الغربية في عام 2002 وحاصر الرئيس الراحل ابا عمار في المقاطعة في رام الله حتى الموت، وأنهى التقسيم الجغرافي لمناطق (الف وباء وجيم)، بحيث يستطيع الجيش الإسرائيلي استباحتها كاملة دون أية فروقات للتصنيفات بينها، أي اخضعها جميعها للسيطرة الإسرائيلية الأمنية المباشرة، ورغم كل ذلك استمر البعض الفلسطيني يعاند الحقائق ويقول بأن إتفاق أوسلو جيد للشعب الفلسطيني، ولا يمكن ابداع أكثر مما كان، هذا الإتفاق الذي وصفه ثعلب السياسة الإسرائيلية شمعون بيريس بأنه النصر الثاني لدولة الإحتلال بعد النكبة التي حلت بشعبنا الفلسطيني عام 1948.

بعد 26 عاماً على مرور أوسلو، وجدنا بأن عملية نهب وتقطيع اوصال أرضنا الفلسطينية مستمرة ومتواصلة، والاحتلال يكثف ويزيد من وتائر استيطانه في القدس والضفة الغربية بشكل جنوني، وتتصاعد الدعوات من قبل الكثير من الأحزاب الإسرائيلية اليمنية المتطرفة المؤتلفة في الحكومة الإسرائيلية الحالية والمتصارعة على السلطة والفوز في الإنتخابات الإسرائيلية التي ستجري اليوم أيهما "يوغل" في الدم الفلسطيني أكثر، فنتنياهو زعيم الليكود يعلن انه سيضم اجزاء من الضفة الغربية والأغوار،وشمال البحر الميت، وقال بانه لن يخلي أي مستوطنة معزولة وغير معزولة، ولكسب أصوات المستوطنين المتطرفين اقتحم الخليل والحرم الإبراهيمي، قائلاً بانه عاد الى أرض الأجداد وللتوحد مع الذاكرة وللتعبير عن "النصر"، وبقية المركبات السياسية الصهيونية الأخرى، أغلبها يتفق مع نتنياهو في الإستراتيجية، لا دولة فلسطينية غربي النهر ومع السيطرة على الأغوار وفرض السيادة الإسرائيلية على أجزاء من الضفة الغربية.

بالمختصر لا احد يوهم شعبنا بأن سقوط نتنياهو سيجلب " اللبن" و"العسل" لشعبنا الفلسطيني، هذا القول سمعناه عندما تم حصار الرئيس الشهيد أبو عمار في المقاطعة برام الله، بأنه اذا تخلصتم من أبو عمار،فستكون فلسطين سنغافورة وناقبت الحكومات الاسرائيلية مع تصعيد واضح ضد شعبنا وحقوقه.

رغم حجم الكارثة التي حلت بنا كشعب فلسطيني بعد أوسلو وما نتج عنه من إفرازات سلطة منزوعة الدسم،لا سيطرة لها على الحدود والمعابر والجو والبحر ، ولا حتى على مقر إقامتها، لا تستطيع الحركة والتنقل من قمة هرمها السياسي حتى أصغر رجل شرطة فيها بدون إذن وتصريح من الإحتلال، والحال في غزة ليس بأفضل كثيراً، وإن كان هناك سيطرة محدودة للسلطة ،إلا أن الاحتلال أيضاً يتحكم بكل مخرجات ومدخلات حياتنا،

ورغم كل هذا التوصيف استمرينا في التجريب والمقامرة بحقوقنا وخوض المفاوضات العبثية والماراثونية لمدة ستة وعشرين عاماً، حيث جربنا المفاوضات بكل أشكالها مفاوضات مباشرة وغير مباشرة، علنية وسرية، عن قرب وعن بعد، ولكن كل ذلك لم يقربنا من حقوقنا المشروعة بوصة واحدة، بل أصبح مشروعنا الوطني يدمر، واوضاعنا الداخلية أضافت الى حالة ضعفنا ضعفاً جديداً، حيث حدث الإنقسام الفلسطيني في تموز 2007، لكي ننشطر بالإضافة للإنشطار الجغرافي، مؤسساتياً وجغرافياً، ودخلنا في حروب مناكفات وتحريض داخلي مقيت بين طرفي الإنقسام (فتح وحماس)، إستعملت فيه كل الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، لتصل الأمور حد التخوين والتفريط والتكفير والتشكيك والاعتقالات السياسية المتبادلة، وتغليب للمصالح الفئوية والحزبية على المصالح العليا للشعب الفلسطيني، وإقتتال على سلطة منزوعة الدسم، وعلى رواتب ووظائف، ولم تنجح كل المبادرات واللقاءات والإتفاقيات التي رعتها دول عربية وقوى فلسطينية وحتى جرت تدخلات دولية وإقليمية في هذا الشأن في وأد هذا الإنقسام المدمر، بل وجدنا بان قوى وفئات نمت على هامش الانقسام المدمر، أصبحت تحكمها مصالحها وارتباطاتها ومحاورها وامتداداتها العربية والإقليمية، معينة بإستمرار الإنقسام وحالة الضعف الفلسطيني، خدمة لمصالحها ولأجندات ومشاريع مشبوهة. ولكي يصبح الإنقسام بنتائجه وتبعاته كارثة جديدة على شعبنا ككارثة أوسلو.

في الذكرى السادسة والعشرين لاتفاقية أوسلو، وبفعل عوامل ضعفنا الذاتية وإنهيار الحالة العربية ودخولها في همومها القطرية وحروب التدمير الذاتي والحروب المذهبية والطائفية، وتعطل الإرادة الدولية المشتبكة أقطابها الرئيسية روسيا وأمريكا ومروحة تحالفاتها الدولية والإقليمية والعربية من أوكرانيا وحتى اليمن، وتبدل الأولويات فقد تراجع الإهتمام بقضيتنا الفلسطينية دولياً وعربياً، ولم ننجح في رسم استراتيجية فلسطينية موحدة، استراتيجية تنهي الإنقسام وتستعيد وحدتنا الوطنية، لكي نتمكن من الصمود والدفاع عن وجودنا وحقوقنا وثوابتنا وقضيتنا.

ولذلك يطرح السؤال: ألم يحن الوقت لكي تنضج قياداتنا، وتدرك بأن استمرارنا في إدارة الصراع مع المحتل بهذه الطريقة البائسة، وكذلك إدارة أوضاعنا الداخلية بطريقة القيادة الملهمة و"الجهبذية" التي تفكر عن شعبها، تلك الطريقة التي تعبّر عن أننا نستخدم الجماهير في مشاريعنا وصراعاتنا، ولا نشركها لا في القرار ولا القيادة وحتى التقرير في مصيرها وشؤونها، سيدفع بهذه الجماهير نحو المزيد من اليأس والإحباط وفقدان الثقة من هكذا قيادات وهكذا قوى سياسية وحزبية لا يعنيها سوى مصالحها ومكتسباتها وإمتيازاتها؟

نعم بعد ستة عشرين عاماً على أوسلو المشؤوم نبتعد كثيراً عن تحقيق حقوقنا الوطنية المشروعة، ونزداد ضعفاً على ضعف بفعل إنقسامنا، وتكلس وتنمط وشيخوخة الكثير من قياداتنا، التي كفت عن الإبداع والإنتاج في ميادين القيادة والتجديد والسياسة والثقافة والفكر.

اليوم نحن امام كارثة اخرى غير كوارث النكبة واوسلو والإنقسام،نحن امام خطة تصفوية امريكية يشترك فيها جزء من النظام الرسمي العربي المنهار وقوى إقليمية ودولية تستهدف شطب وتصفية القضية الفلسطينية بشكل نهائي، بمرتكزاتها الرئيسية القدس واللاجئين والحدود والهوية والرواية التاريخية،إنها صفقة القرن الأمريكية، التي سيجري نشر الشق السياسي منها، بعد الإنتخابات الإسرائيلية مباشرة، تلك الصفقة التي توحد شعبنا وقيادتنا وفصائلنا على رفضها، ولكن الرفض لوحدة لا يكفي من اجل "قبرها" ، فلا بد من إستعادة الوحدة الوطنية وإنهاء الإنقسام ورسم استراتيجية ورؤيا فلسطينيتين تقومان على الصمود والمقاومة، وبرنامج وطني متفق عليه يقوم على الشراكة في القرار والقيادة.

كذلك لم يعد مجديا الرهان على ماراثون المفاوضات العبثية،وإستخدام التكتيكات لتحسين شروط العودة للمفاوضات، فهذا لن يقودنا سوى نحو المزيد من الكوارث، وأيضاً لا يجوز استمرار التنكر لمقررات المجلسين الوطني والمركزي، وإطلاق التصريحات والخطب النارية حول تعليق العمل بالإتفاقيات الأمنية والسياسية والإقتصادية مع دولة الإحتلال دون أي ترجمة حقيقية او فعلية على الأرض، لأن من شان ذلك زيادة حالة فقدان الثقة والإحباط ونشر اليأس في أوساط الجماهير.

كذلك لا يمكن في ظل ما تشهدة المنطقة والإقليم من تطورات،وبروز تحالفات جديدة في المنطقة،وتراجع وإنكفاء المشروع الأمريكي، ان نبقي القرار الفلسطيني تحت عباءة محور عربي ثبت انه جزء من المشروع المستهدف شطب وتصفية قضيتنا، ويعمل على شرعنة وعلنية التطبيع مع دولة الإحتلال، فلا بد من فتح القرار والخيار الفلسطيني، على أوسع فضاء عربي- إسلامي،وبالذات على محور المقاومة ، كضمانة أساسية من اجل إفشال صفقة القرن الأمريكية.

بعد ستة وعشرين عاماً على نكبة اوسلو، آن الآوان لنشطب اوسلو من حياتنا وتاريحنا، فتلك حقبة سوداء في هذا التاريخ.