جمهورية جلعاد (2-4)

حسن خضر.jpg
حجم الخط

حسن خضر

توقفنا في معالجة سبقت عند "حكاية الوصيفة". فرواية آتوود الجديدة، "الوصايا"، هي جزؤها الثاني. لذا، يصعب فهم الثانية دون الاستعانة بالأولى. وتجدر الملاحظة أن الأولى صدرت في طبعات جديدة، واكتسبت أهمية مضاعفة، بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض، وصعود الشعبوية واليمين القومي في بلدان غربية مختلفة.
وبالتالي، لا يحتاج الأمر إلى براعة خاصة للقول إن المُحرّض على كتابة الجزء الثاني، وانتظاره بشغف من جانب القرّاء والنقّاد على حد سواء، وصعود "الوصايا" إلى قائمة أكثر الكتب مبيعاً في بلدان غربية مختلفة، يعود في جانب منه إلى حقيقة أن في مجرّد وجود كائن من فصيلة ترامب في البيت الأبيض ما يعني أن ما يحدث في الروايات قد يكون نبوءة سوداء لما قد يحدث في الواقع، أيضاً.
بمعنى أكثر مباشرة: جمهورية جلعاد في الروايتين مرشحة كمصير محتمل للولايات المتحدة، وغيرها من الديمقراطيات الليبرالية في الغرب، إذا استمر الحال على هذا المنوال. وبالنسبة للعالم العربي فحدّث ولا حرج، ثمة جمهوريات جلعادية كثيرة في الماضي والحاضر. على أي حال، ولنبق في الغرب: "ما حدث هناك" أي في الروايتين، "يمكن أن يحدث هنا"، تقول آتوود، وقصدها الغرب. فما هي جمهورية جلعاد، إذاً؟ يكفي أن في سؤال كهذا ما يجعل من "حكاية الوصيفة" ممراً إجبارياً لـ"الوصايا".
نشأت جمهورية جلعاد، كما صوّرتها آتوود "في حكاية الوصيفة"، بعدما قامت جماعة من الأصوليين الدينيين، تُسمّى "أبناء يعقوب"، في الولايات المتحدة، بالاستيلاء على مقاليد الحكم في البلاد، وتعطيل الدستور، ومصادرة الحريات العامة، وأعادت هيكلة المجتمع استناداً إلى تراتبية جديدة تستمد مسوّغاتها الأيديولوجية من تأويلات خاصة للكتاب المُقدّس.
ولعل أهم سمات التراتبية الاجتماعية في "جمهورية جلعاد" ـ وهذا اسمها الرسمي الذي اختاره "أبناء يعقوب" ـ ما يتصل منها بمكان ومكانة النساء، فقد تم فصلهن عن عالم الرجال، وحرمانهن الحق في تعلّم القراءة والكتابة، وتصنيفهن ضمن فئات خاصة لكل منها وظيفة مُحددة، ولكل منها زيها ولونها الخاص الذي يُميّزها عن الأخريات.
هناك: فئة الزوجات، خاصة زوجات القادة، وهذه الفئة تتميّز باللون الأزرق، وفئة الوصيفات اللائي يرتدين جلابيب فضفاضة حمراء اللون، وقبّعات بيضاء وبيضاوية تحجب الوجه، ووظيفتهن الإنجاب، وفئة العمّات اللائي يرتدين جلابيب بنية اللون، ويقمن بتلقين بقية النساء الواجبات الاجتماعية، وآداب السلوك، ويحق لهن معرفة القراءة والكتابة، وفئة العاملات في الخدمة المنزلية زيها الأخضر، وأخيراً، الأبيض زي البنات ما قبل البلوغ، والأسود زي الأرامل.
تحتل جماعة من "القادة" رأس الهرم في التراتبية السياسية والاجتماعية والجنسية، الجديدة، بطبيعة الحال، وعلى هؤلاء تقع مسؤولية إدارة الدولة والشأن العام، وشن الحروب، والحفاظ على الأمن العام، والإنجاب، أيضاً، لضمان ديمومة الطبقة الحاكمة، ونقاء دمها.
ومسألة الإنجاب، هنا، تستحق التوقّف. فالتغيّرات المناخية، والتلوث البيئي في "جمهورية جلعاد"، أسهما في التقليل من معدلات الخصوبة، والتكاثر الطبيعي. وهذا الواقع هو الذي حكم مكان ومكانة النساء في الترابية الجديدة. فمن فئة الوصيفات اللائي يتم اختيارهن من نساء في سن الإنجاب تُختار وصيفة لكل "قائد" لتمكينه من إنجاب طفل، وهذا يحدث في حفل جنسي خاص تحضره الزوجة، ويُحتفل فيه "بزفاف" "القائد.
الوصيفة لا اسم لها، فهي تُنسب إلى اسم "القائد" الذي يملكها ويفترعها، وإذا أنجبت منه فهي "الأم البيولوجية"، لا غير، ولا أكثر، أما زوجة "القائد" فهي الأم الحقيقية والمعترف بها في نظر المجتمع والقانون. وفي حال لم تُنجب الوصيفة يتم التخلّص منها وفرز وصيفة جديدة، وهكذا دواليك. وغالباً ما "يسأم" "القادة" من وصيفاتهم وزوجاتهم، بعد فترة من الوقت. فللصبايا الصغيرات، بعد البلوغ بقليل، مزايا "صحية" كثيرة خاصة في نظر "القادة" كلما تقدّموا في السن.
لذا، تمارس الوصيفة دور الفاعل الروائي الرئيس في "حكاية الوصيفة"، التي أصبحت ممكنة بفعل أشرطة مجهولة المصدر سجّلت فيها امرأة تنتمي إلى هذه الفئة تفاصيل مثيرة عن حياتها قبل قيام "جمهورية جلعاد"، وكيف تحوّلت بعد قيامها إلى "رحم للإيجار".
وعلى الرغم من أن الوصيفة لا تحضر كفاعل روائي رئيس في "الوصايا"، إلا أن حياة نساء قمن بدور الفاعل الرئيس في الرواية وثيقة الصلة بالوظيفة الاجتماعية والإنجابية للوصيفة، ووثيقة الصلة، أيضاً، بما تنطوي عليه الوظيفة من دلالات سياسية وثقافية.
فمن بين ثلاث وصايا كتبتها الفاعلات الروائيات، وشكّلت أحداث الرواية نفسها وحبكتها، يُرجّح أن اثنتين منها تفسِّران مصير ابنتين أنجبتهما وصيفة سابقة، أما الوصية الثالثة فتعود إلى كبيرة العمّات، ليديا، الأهم بين الخدم الأيديولوجيين للنظام، وأبرز حرّاس التراتبية الاجتماعية، ومنتجي خطابها، والمُزوّد الرئيس "للقادة" بالوصيفات.
ولنحتفظ في الذهن، في هذه العجالة، بأمر رئيس: لا معنى لكل كلام محتمل عن الدكتاتورية، والاستبداد، وما ينجم عن هذه وذاك من مصادرة للحق في الفردية والتفرّد، والتفكير والتعبير، دون العثور على المفتاح الجنسي لهذا كله، ودون تفكيك ضوابط وآليات، ولغة (إذا شئت) حضور أو غياب النساء في علاقات القوّة، وإستراتيجيات الملكية، وتوزيع الثروة، وإنتاج وتعميم خطابي السوق والأخلاق.
لكل هذه الأسباب، ورغم تجلي الدكتاتورية والاستبداد في أشياء تتجاوز موضوع النساء، إلا أن القبض، بمهارة، على تصرف مجتمع ما على طريقة الهيئة الدولية للطاقة النووية، وملاحقته للجنس كسلاح من أسلحة الدمار الشامل، يضفي على رواية الدايستوبيا قدراً كبيراً من الإمتاع والمؤانسة. وكلاهما، كما تعرف يا أخا العرب، من صفات الأدب الجيّد.