كشفت أجهزة الاستخبارات البريطانية اليوم الثلاثاء، عن هوية عميل إسرائيلي داخل أجهزة استخباراتها، وذلك في حادثة بقيت طي الكتمان على مدى عقود سابقة.
وبحسب ما أوردته صحيفة "الشرق الأوسط" اللندنية، فقد أظهرت الوثائق الرسمية الصادرة عن أجهزة الاستخبارات البريطانية، أنّ الجاسوس سيريل هيكتور أبراهام وايبرو كان يحمل رتبة رائد، وكان يعمل داخل مكتب الاستخبارات المشتركة في وزارة الحرب (وزارة الدفاع حالياً) عندما تم كشف أمره عام 1950.
وشكلت قصة هذا الجاسوس فصلاً محرجاً للاستخبارات البريطانية، التي كان يفترض بها أن تشتبه بعلاقته مع الإسرائيليين منذ عمله ضابط استخبارات في فلسطين خلال حقبة الانتداب البريطاني.
كما أنها من الحالات النادرة التي يُكشف فيها أن إسرائيل كانت تتجسس على البريطانيين من خلال عميل داخل أجهزة استخباراتهم.
وملف الرائد (ميجور) وايبرو واحد من مجموعة من الوثائق التابعة لجهاز الأمن "إم آي 5" المعني بمكافحة التجسس على الأراضي البريطانية (الاستخبارات الداخلية)، سترفع الحكومة البريطانية السرية عنها بدءاً من اليوم في الأرشيف الوطني بلندن.
وتضمن ملف وايبرو خلفيات عن نشاطاته منذ كان ضابط استخبارات يعمل في الشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الثانية. إذ كشف الملف أن وايبرو كان مسؤولاً عن فرع يافا (فلسطين) في المخابرات البريطانية يعرف باسم "أمن الاستخبارات - الشرق الأوسط"، ويُعرف اختصاراً بـ"سايم"، وهو جهاز أسسته الحكومة البريطانية عام 1939 بهدف جمع المعلومات وتأسيس شبكات عملاء في الشرق الأوسط.
وكان أفراد هذا الجهاز ينتمون أصلاً إلى أكثر من جهاز أمني بريطاني وخصوصاً جهاز الأمن "إم آي 5" وكذلك المخابرات الخارجية "إم آي 6"، وتم حل جهاز "سايم" عام 1958، وكشف ملف الرائد وايبرو أن جهاز «سايم» حقق معه عام 1942 خلال عمله في فلسطين للاشتباه بتورطه في «مخالفات مالية» وارتباطه مع شبكة تجسس يهودية، وكاد أن يحيله على محاكمة عسكرية قبل إسقاط التهم عنه وتسريحه من الخدمة عام 1943.
وكشف محضر مؤرخ بتاريخ 12 سبتمبر (أيلول) 1942 أن وايبرو اتهم خلال عمله كمسؤول الاستخبارات في يافا بأنه اشترك مع آخرين في جمع أموال من أفراد يهود في تل أبيب بهدف "تمويل منظمة استخباراتية يهودية... يقودها ثلاثة أشخاص يهود" حُذفت أسماؤهم.
وأشار إلى أنّ الأمن البريطاني استجوب وايبرو فتبيّن أنه كان على علم بأنه سيحال إلى التحقيق وسيتم تفتيش مكتبه قبل 14 يوماً من حصول ذلك، ما أوحى بأن هناك خرقاً أمنياً ساعده في الاستعداد للخضوع للتحقيق.
وبيّن محضر التحقيق أنّ وايبرو نفى معظم "الاتهامات الخطيرة" الموجهة له وقال إن "المنظمة اليهودية" التي كان يتم إنشاؤها بهدف التجسس كان يتعامل معها في إطار مهمته العادية وهي بناء شبكة من العملاء والمخبرين الذين يقدمون معلومات تساعد الاستخبارات البريطانية .
كما وقدم تقرير جهاز "سايم" معلومات عن شبكة كبيرة من الأشخاص الذين كانوا على صلة بالرائد وايبرو في يافا، وبينهم رجل يهودي كانت له نشاطات واسعة تصل "حتى العاصمة اللبنانية بيروت"، حيث قام بـ"عمل صغير جميل ساعد به المكتب الثاني في المخابرات الفرنسية".
ولفت التقرير إلى أن شبكة وايبرو ضمت أيضاً "مارونياً لبنانياً" يقطن منذ سنوات مدينة يافا وكانت مهمته "فحص العرب" الذين يعملون لمصلحة البريطانيين، وبعد تسريحه من الخدمة في فلسطين عام 1943 عاد الرائد وايبرو إلى بريطانيا، حيث بدأ العمل في العام 1946 في مكتب الاستخبارات المشتركة في وزارة الحرب (الدفاع). وليس واضحاً سبب إعادة ضمه إلى أجهزة الاستخبارات رغم تسريحه بشبهة الارتباط بمنظمة التجسس اليهودية وارتكاب مخالفات مالية.
وأوضحت وثائق الاستخبارات أن الشبهات حول الرائد وايبرو جاءت في أعقاب اكتشاف تقارير بالغة السرية (سي إكس) للاستخبارات الخارجية البريطانية "إم آي 6" في حوزة الاستخبارات الإسرائيلية، فتقرر فتح تحقيق في مصدر تسريب هذه المعلومات السرية.
ونوّهت وثيقة مؤرخة بتاريخ 1 نوفمبر (تشرين الثاني) 1949، إلى أنّ التحقيق في "حالة خطيرة لتسريب وثائق سي إكس إلى أيدي الإسرائيليين" أظهر أن مصدر تسريب المعلومات لا بد أن يكون من أحد قسمين في الاستخبارات. الأول هو جهاز "إم آي 6" ومكتب السجلات فيه (تم حذف اسم الشخص الممكن أن يكون موضع الشبهة)، والثاني هو "مكتب الاستخبارات المشتركة" ومكتب السجلات فيه.
وتابعت الوثيقة أن الشبهة حامت حول «الميجور سيريل هيكتور أبراهام وايبرو المسؤول عن القسم أ.2 في مكتب السجلات بمكتب الاستخبارات المشتركة وهو أولاً: على اتصال بنعيمة، ابنة صموئيل لاندمان (عميل معروف للاستخبارات الإسرائيلية) وجاك بادوا (المشتبه في اختراقه منظمات إرهابية يهودية في أوروبا لمصلحة وكالة الاستخبارات اليهودية)، وثانياً: لديه إمكانية الحصول على مواد يُعرف أنها مُررت إلى أيدي قوة أجنبية، في إشارة إلى وقوعها في أيدي أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية.
وأردفت أن أجهزة الاستخبارات تطلب بناء على هذه الشبهة إذناً قضائياً بـ"التنصت على محادثاته... لمعرفة معلومات أكثر عن اتصالاته ونشاطاته"
كما تضمن ملف وايبرو سلسلة ضخمة من تقارير عملاء الاستخبارات و"الفرع الخاص" في الشرطة المكلفين مراقبة تحركاته واتصالاته مع الإسرائيليين، بما في ذلك محاضر اتصالاته الهاتفية، ونصوص مراسلاته التي كان يتم فتحها وتصويرها، وحركة تنقله من مكتبه إلى منزله والأشخاص الذين يقابلهم ولو صدفة على الطريق، وكذلك تقارير عن سائقي سيارات التاكسي الذين ينقلونه من مكان إلى آخر في لندن.
وأوضحت وثيقة لمحققة في الفرع الخاص في الشرطة، بتاريخ 26 مايو (أيار) 1950، أن أجهزة الأمن البريطانية طلبت استمرار الرقابة على الرائد وايبرو مع إبقائه في عمله بمكتب الاستخبارات المشتركة في وزارة الحرب، رغم التأكد أنه "على اتصال بثلاث شخصيات استخباراتية إسرائيلية"، وكان الهدف من إبقائه في عمله في الاستخبارات هو كشف الشبكة التي يتعامل معها، إذ إن عملاء الاستخبارات كانوا يحصون عليه أنفاسه أينما تحرّك خارج مكتبه أو منزله.
وكان لافتاً، في هذا الإطار، أن ضباط الاستخبارات المكلفين تتبعه صاغوا تقاريرهم أحياناً بصيغ توحي بنوع من العنصرية، فيما لو تم استخدامها هذه الأيام. ففي تقرير مؤرخ يوم 11 مايو 1950، كتب ضابط استخبارات كان يتابع وايبرو: "في الساعة 6:50 مساء، ترك (سيريل) مكتبه ومشى إلى شارع غريت كمبرلاند بليس، وعند الساعة 6:10 وأمام فندق كمبرلاند أوقفه رجل (عُرّف فقط بحرف سي) بطريقة بدت عفوية في ظاهرها. وقفا يتحدثان، وتبادلا بطاقات، وسجّل كل منهما ملاحظات، وافترقا عند الساعة 6:25، تم تعقب (سي) إلى الشقة 24 في دادلي كورت... مواصفات سي هي كالآتي: عمره 50 سنة، طوله 5 أقدام و7 بوصات، سمين، وجهه بيضاوي ضخم، له أذنان كبيرتان، وعينان صغيرتان، وأنف يهودي معقوف... كان يحمل حقيبة جلدية. شكله يهودي ويتحدث بلكنة أجنبية".
وحمل التقرير توقيع "الدكتور ستورير - الفرع الخاص في الشرطة"، واستخدام تعبير "أنف يهودي معقوف" يمكن أن يجر فيما لو استخدم هذه الأيام اتهامات واضحة بالعنصرية ضد اليهود.
وتقدم تقارير العملاء المكلفين مراقبة الجاسوس المشتبه به تفاصيل دقيقة عن تحركاته والأشخاص الذين كان يلتقيهم وخلفياتهم والشركات التي يعملون فيها والسيارات التي يتنقلون بها والقطارات التي يسافرون بها.
وفي أحد التقارير، كشف ضابط في الشرطة أن عمليات مراقبة الرائد وايبرو كادت أن تنفضح وتفقد الاستخبارات البريطانية عنصر المفاجأة في كشف الشبكة الإسرائيلية. ففي أحد الأيام، اتصل ضابط أمن يعمل في مكتب الاستخبارات المشتركة ويدعى «السيد هاريس» بشرطة اسكوتلنديارد لإبلاغها عن "تحركات لمشبوهين" حول عنوان الرائد وايبرو في "براينستون سكوير" قرب محطة إيدجوير رود في لندن، من دون أن يعرف أن هؤلاء "المشبوهين" هم ضباط أمن يراقبون الجاسوس الإسرائيلي. وفي 9 يونيو (حزيران) 1950، يكشف محضر تنصت على محادثات وايبرو أن امرأة اتصلت به وأبلغته أنها تريد تسليمه رسالة من "صديقك جاك (بادوا)"، وهو جاسوس معروف لإسرائيل، فحدد لها مكاناً تلتقيه لتسلم الرسالة منها. ولم يتضح مصير ملاحقته في وقائع التجسس التي رصدها الملف المُفرج عنه اليوم.