أزمــــة مـــرور

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

وفقاً لإحصاءات وزارة النقل والمواصلات، ارتفعت أعداد السيارات بالضفة الغربية 168% خلال السنوات الخمس الماضية. وقد بلغ عدد المركبات المرخصة حوالى نصف مليون مركبة بمختلف أنواعها (في غزة نحو 70 ألفاً). تشكل السيارات الخاصة 79% من إجمالي المركبات. وتصل نسبة عدد السيارات الخاصة مقارنة بعدد السكان نحو 70 مركبة لكل ألف نسمة، وهو رقم متواضع مقارنةً بدول العالم، في أميركا مثلاً حوالى 800 سيارة/ ألف نسمة، في أوروبا حوالى 500، في الأردن 123، في إسرائيل 384. وعدد السيارات في العالم نحو مليار سيارة، بمعدل سيارة لكل 7 أشخاص.
حتى اليوم، تخلو المدن الفلسطينية من الجسور والأنفاق (وهي مرتكز أساسي لتخيف أزمات السير في المدن الكبيرة).. وكانت أول إشارة ضوئية لتنظيم المرور قد نُصبت في العام 1999 (في غزة بعد العام 1994).. وحتى منتصف التسعينيات لم تعرف مدن وبلدات الضفة الشوارع السريعة (Hi Way)، ولا الشوارع الواسعة ذات الجزر الوسطية.. وقبل عقدين من الزمان، كانت المدن أشبه بالبلدات: بنية تحتية هشة، شوارعها ضيقة ومحدودة، وآخر مرة عُبِّدت فيها كانت في زمن الانتداب البريطاني.. اليوم، تحسّن الحال بشكل واضح، فلغاية 2017، بلغت أطوال الطرق المعبدة بالضفة الغربية أكثر من سبعة آلاف كم.. وصار على كل مفترق إشارة ضوئية، وتمت توسعة معظم الشوارع.. ومع ذلك الأزمات المرورية تزداد يوماً بعد يوم.
حسب إحصائية لبلدية رام الله، لرصد ساعة الذروة الصباحية، تدخل المدينة نحو 97 ألف سيارة من مداخلها الأربعة.. وحسب إحصائيات وزارة النقل تسلك نحو 100 ألف سيارة الطريق يومياً ذهاباً وإياباً بين الرام ورام الله، عبر مخيم قلنديا. إضافة إلى 82 ألف سيارة لسكان المدينة (كانت 20 ألفاً سنة 2007)؛ لذا لم تعد الاختناقات المرورية مقتصرة على ساعات الذروة.
هل الأرقام السابقة هي سبب الأزمة؟
تقول الجهات الرسمية: إن العديد من الشوارع لا يمكن توسعتها، خاصة أن المدينة خُططت في زمن سابق، لم يتوقع المخططون حينها حركة التطور العمراني والاقتصادي المتنامية، والتزايد الهائل في أعداد المركبات، فصارت الطرق عاجزة عن استيعاب حركة السير فوقها.
ولكن جوهر المشكلة أنَّ أحداً لا يحاول تحمل مسؤولياته بصدق ونزاهة، وكل مواطن يلقي بها على الآخرين! أي أنها أزمة أخلاق قبل أن تكون أزمة مرور.
ربما تكون منطقة قلنديا الأشد ازدحاماً، والأكثر إزعاجاً.. صحيح أن الحاجز الإسرائيلي هو السبب في خلق الأزمة، لكن قيادة بعض السائقين مركباتهم بعكس الاتجاه، وكذلك وجود تعديات على جانبي الشارع، ووجود سيارات غير قانونية يقودها شبان مراهقون، وعدم الالتزام بقوانين السير، وركن السيارات على جانبي الطريق لفترات طويلة، عدا التعديات على منظمي السير، وشتمهم، أو محاولات دهسهم.. تلك أسباب تزيد من الأزمة وتفاقمها.
في قلنديا وغيرها، تكمن المشكلة في السلوك البشري، فأيّ سائق يعتقد أنه الوحيد صاحب الحق في الشارع، وهو الوحيد الذي على عجلة من أمره، وعلى الآخرين التنحي جانباً.. عليه أن يتشاطر، وأن يسبق غيره، وألا يسمح لأحد بتجاوزه.
مشكلة الإنسان أنه يعتقد جازماً أنه دوماً على حق، يرى أخطاء غيره بوضوح، ويتعامى عن رؤية أخطائه، يقدّر الأمور على مسطرته الخاصة، ووفقاً لمعاييره.. فإذا كان ماشياً يعطي نفسه الحق بعبور الشارع على أقل من مهله، وحتى دون أن يلتفت جانباً.. وإذا كان سائقاً سيلعن أي مواطن يعبر من أمامه ويؤخره ثواني قليلة.. إذا تجاوزته سيارة يتهم سائقها بالتهور، أما هو فيسمح لنفسه بالتجاوز، لأنه مستعجل.. وإذا رأى سيارة مسرعة سيقول عن سائقها: إنه أرعن.. وإذا مرت بطيئة فإن سائقها ممل، وإذا كان بصدد دخول شارع رئيسي فعلى الجميع احترام رغبته والتوقف، أما حين يكون ماراً فلا يفكر بإعطاء أولوية لأحد.. نرى حوادث الطرق ونسمع عنها يومياً، مع إدراكنا أن معظم أسبابها يتعلق بالسرعة، ومع ذلك نسوق بأقصى سرعة ممكنة، فكل سائق يظن نفسه الأكفأ، الذي لا يخطئ.
مشكلة أخرى تتعلق بالخلط بين الشعور بالذنب، أو الإحساس بارتكاب خطأ ما، وبين الخوف من العقوبة.. فمثلاً لا يلتزم الكثيرون بوضع حزام الأمان إلا على الطرق الخارجية، ليس لقناعة بأهميته؛ بل خوفاً من العقوبة.. وكذلك يمكن لأي سائق أن يعبر طريقاً بعكس الاتجاه، أو يركن سيارته في مكان ممنوع الوقوف فيه، إذا ضمن عدم وجود شرطة.
المخالفات السلوكية التي يقترفها المشاة تشكل نحو 60% من أسباب أزمات الشوارع.. يعبرون الطريق من أي مكان، ودون حذر، والبعض يمشي بشكل طولي، وكأنه يتمشى على الكورنيش، والأغلبية لا يستخدمون أرصفة المشاة، ربما بسبب تعديات أصحاب المحلات. كما يظن الكثيرون أنَّ إشارات المرور ملزمة فقط للسيارات!
وليس في ثقافتنا استخدام وسائل النقل العامة (إلا المضطر)، فلو استخدمنا الباصات ستقل الأزمة بشكل كبير.. فمثلاً شارع قلنديا يحتاج لنحو 1500 حركة باص يومياً، مقابل 100 ألف سيارة.
إعادة تأهيل الطرق وتوسعتها، وتشديد الشرطة على المخالفات.. قضايا مهمة، لكن الأهم تنظيم سلوك الناس: تَـمثُّل الأخلاق والذوق أثناء القيادة، استخدام المركبة الخاصة للضرورة فقط، واللجوء للمشي، أو للدراجات الهوائية، وهذه عادة صحية منتشرة في الدول المتقدمة.
تبذل البلديات جهوداً كبيرة لتخفيف الأزمات، مثل إلزام رخص البناء بإنشاء مواقف في كل عمارة، وإعادة تخطيط وتنظيم حركة المرور، من حيث اتجاهات السير لضمان انسيابية حركة المرور، ولكن أحياناً تكون اجتهاداتها غير موفقة.
من الحلول المقترحة لتقليل عدد المركبات التي تدخل المدن يومياً إيجاد مواقف للباصات والسيارات العمومي على مداخل المدن، ثم نقل الركاب بالسرفيس إلى داخل المدن، وأيضاً تنظيم حملات شعبية لزيادة الوعي المروري، وتفعيل عمل دوريات السلامة على الطرق، وعدم تركيز الشرطة على وسط البلد.
تكلف أزمات السير في أكبر ثلاثين مدينة بالعالم 266 مليار دولار سنوياً، وفي تلك المدن تحتاج أقصر حركة تنقل أكثر من ساعتين.
في كل عشر ثوان يموت شخصان من حوادث الطرق، أي أنه خلال قراءتك للمقال قُتل نحو 60 شخصاً في العالم، بسبب حوادث السيارات. في فلسطين توفي 134 مواطناً منذ بداية هذا العام.
السلامة للجميع، ركاباً ومشاة.