ألمحنا في القسم الأوّل إلى التاريخ السلالي لروايتي "حكاية الوصيفة" و"الوصايا"، والمقصود، اليوم، أن مارغريت آتوود لم تخترع البارود، فقد سبقها كثيرون. وبهذا المعنى يمكن الكلام عن التاريخ السلالي، أو جينالوجيا رواية اليوتوبيا المقلوبة، أو الديستوبيا (إذا شئت)، فكلتاهما تمثل الجانب المُظلم لليوتوبيا، وهذه قديمة قدم الإنسان على الأرض.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالأزمنة الحديثة، غالباً ما يعود مؤرخو الأفكار بتعبير اليوتوبيا إلى أوائل القرن السادس عشر، والسير توماس مور، الذي نشر كتاباً بهذا العنوان، ورسم فيه ملامح مثالية لمجتمع نشأ في جزيرة نائية في المحيط، وقد نحت اسم المجتمع الفريد من كلمتي "لا" و"مكان" في الإغريقية القديمة، بمعنى أن اليوتوبيا هي اللامكان. وفي المقابل، ومع تحريف بسيط في كتابة كلمتي "الجيد" و"مكان" في الإغريقية القديمة، أيضاً، تُفهم اليوتوبيا بوصفها المجتمع الجيد.
وبقدر ما أرى الأمر، فإن في الدلالة اللغوية للمكان الجيد، واللامكان ما يحيل إلى لحظة الهبوط من الفردوس، في المخيال الديني، التي تحقق فيها، بالعقاب الإلهي، فعل تحويل المكان الجيد إلى لا مكان، مع وعد بعودته واستعادته وكلتاهما مشروطة بفعل الإيمان. وما بين فعل تحقق في زمان قبل وفوق الزمان، وفعل العودة والاستعادة، في الزمان والمكان (أي في الواقع والتاريخ) يتجلى وجود الإنسان على الأرض كصعود مشروط، بالرضا الإلهي، إلى ذلك اللامكان.
وفي الأثناء، أي بين فعلين واحد تحقق قبل وفوق الزمان، والثاني في حالة صيرورة دائمة تطل على أبد مفتوح، تكاثر القباطنة، والمرشدون، والحالمون، والسحرة، والمغامرون، واللصوص، الذين زعموا على مدار قرون أنهم عثروا على خارطة للطريق إلى المكان الجيّد، سواء على الأرض أو في السماء. وفي الأثناء، أيضاً، وُلد كل ذلك الرعب القيامي الذي تجلى في نبوءات الكتاب المُقدّس. ولنتذكّر، دائماً، كما ذهب رينيه جيرار: كل علاقة محتملة بالمقدس مشروطة بالرعب.
ولنتذكر أيضاً، ودائماً: أن كل ما كان في المخيال الديني، ومنه، لم يندثر بعد نزع السحر عن العالم، بل تعلمن. وبقدر ما أرى، فلا إمكانية حقيقية لفهم معنى الأزمنة الحديثة، دون مفتاح "نزع السحر عن العالم"، الذي أضافه ماكس فيبر إلى مفاهيم وأدوات العلوم الإنسانية. فـ "ولادة الإنسان في التاريخ"، والعلاقة بين "المعرفة والسلطة والإنشاء"، لم تكن ممكنة أو مفهومة دون، وقبل، نزع السحر عن العالم.
ويكفي القول، في هذا الصدد، إن العلمنة عطّلت العلاقة الدلالية التقليدية بين المكان الجيد واللامكان، حين أنكرت الوجود المُسبق والمُتعالي للأوّل، وجعلت من الأرض المكان المُحتمل والوحيد للثاني، الذي ينبغي البحث عنه وتوفير شروط موضوعية، أو علمية بلغة طيّب الذكر ماركس، للعثور عليه، والوصول إليه، وتحقيقه. وفي سياق كهذا يمكن فهم الديستوبيا بوصفها الصيغة المعلمنة، أيضاً، لكل ذلك الرعب القيامي في نبوءات الكتاب المُقدّس.
وإذا جاز اطلاق تسميات مختلفة على القرن العشرين، فلن يتمكن أحد من تفادي القول إنه قرن المشاريع الأيديولوجية الكبرى، التي اعتقد أصحابها أنهم امتلكوا خارطة للطريق. فالشيوعية، والنازية، والقومية، والرأسمالية، كانت كلها مشاريع خلاصية مُعلمنة، وبقدر ما تجلت فيها أوهام واستيهامات المكان الجيد، على الأرض، لا في السماء، تجلى فيها الرعب القيامي، أيضاً.
وبهذا المعنى، اشتغل الكتّاب والفنانون والمنشقون (رجالاً ونساءً) في القرن العشرين على طريقة كتبة الكتاب المقدّس، ومدوّني الحوليات القدامى: صوّروا وتصوّروا الرعب. ومع نهايات القرن، وفي بدايات قرن وألفية جديدين، يبدو الأمر مع الأصوليات الدينية، في كل مكان، وكأنه عودة لمكبوت المخيال الديني بكل ثقل وفظاعة ما وسم العلاقة بالمقدس من الرعب. وكأن في عنف دواعش المسلمين والمسيحيين واليهود، وحتى الهندوس، ما يمثّل انتقاماً قيامياً، بمعايير تكاد تكون توراتية تماماً، من واقع وميراث نزع السحر عن العالم.
وما تجدر ملاحظته، في هذا الشأن، أن العنوان الذي اختارته آتوود لروايتها الجديدة ينطوي على دلالات وثيقة الصلة بما تقدّم. فكلمة testaments، تعني الوصايا، كما تعني الشهادات، أو الأدلة، ويمكن أن تعني الكتاب المُقدّس بعهديه القديم والجديد، أو الأناجيل، أو البشارة. وهذا يصدق، أيضاً، على the handmaid’s tale، عنوان ما أصبح الآن الجزء الأوّل للكتاب الجديد. فـ handmaid التي تُترجم بالوصيفة أو الخادمة مُستمدة في الواقع مِنْ، ومستخدمة، في قصتين توراتيتين عن راحيل وليئه وكلتاهما تهب خادمتها لزوجها بعدما أصبحت غير قادرة على الإنجاب.
بمعنى أكثر مباشرة: لا توجد كتابة أولى. فكل كتابة هي في الواقع كتابة على كتابة. لذا، في التاريخ السلالي، أو جينالوجيا "الوصايا" وقبلها "حكاية الوصيفة" ما يساعد على فهم أفضل للعمل الروائي أولاً، ويعيد إحياء كتابة سبقت ثانياً، ويُسهم في إضاءة الدلالات التاريخية، واللغوية، والجمالية، والفكرية للعمل ثالثاً. وفي هذه الأشياء مجتمعة ما يفسر، ويبرر، الكلام عن تعددية الطبقات التي يتكوّن منها العمل الأدبي أو الفني.
أخيراً، يمكن العثور على خيط مباشر يمتد من "عالم جديد شجاع" (1931) لألدوس هوكسلي، و"ظلام في الظهيرة" (1940) لآرثر كوستلر، و"مزرعة الحيوانات" (1945) و"1984" (1948) لجورج أورويل، و"فهرنهايت 451" (1953) لراي برادبري، و"حكاية الوصيفة" (1985) و"الوصايا" (2019) لمارغريت آتوود. وعلى امتداد هذا الخيط تتجلى الأعمال المذكورة بوصفها "أناجيل" و"شهادات" و"وصايا" عن الجانب المظلم لليوتوبيا في جمهوريات جلعادية كثيرة عرفها القرن العشرون، وما عبر منها إلى، أو أنجب في، قرن وألفية جديدين. في مقالة لاحقة نقرأ المزيد.
