استراتيجــيــة عمـــل الجـيــش الإسرائيلــي

20150109213629
حجم الخط

لم يكن لنشر الوثيقة الاستراتيجية للجيش الاسرائيلي، التي تشكل علامة فارقة في تطور العلاقة بين الجيش ومواطني الدولة، اية سابقة. كما لا يمكن التقليل من اهمية الشفافية التي تم التعبير عنها في عملية النشر بحد ذاتها ويجب الترحيب بذلك. وعلى الرغم من ان هذه الوثيقة لم تكتب على ضوء توجيه سياسي او للتعبير عن اي وجهة نظر امنية وطنية مكتوبة، الا ان العقيدة الشفوية الذي تطورت في اسرائيل على مدار السنين وفرت ارضية صلبة لبلورة استراتيجية. ولذا فإن نشر الوثيقة يوفر فرصة لاختبار الاستراتيجية الجديدة للجيش الاسرائيلي في مواجهة التحديات التي يتوجب على وجهة النظر الامنية مواجهتها. بعد مناقشة خلفية المحيط الاستراتيجي لدولة اسرائيل، تتطرق الوثيقة الى عناصر العمل الرئيسية للجيش الاسرائيلي: تفعيل استخدام القوة، القيادة والتحكم في الجيش، بالاضافة الى مبادئ بناء القوة المستمدة من المحيط الاستراتيجي ومن عناصر العمل. 

هدف الجيش الاسرائيلي في الوضع الروتيني:
اعتاد الجيش الاسرائيلي على العمل في الوضع الروتيني، في ميدان العمل العسكري الاعتيادي. تركزت هذه الاعمال بشكل اساسي في الدفاع عن الحدود وفي النشاطات داخل «المناطق»، حيث تكون للجيش السيطرة والسيادة فيها. وفي المقابل، فإن وثيقة الجيش الاسرائيلي تخصص اختبارا واسعا جدا لهدف الجيش في الوضع الروتيني وموضوعها تحديدا منظومة العمل الدائمة، التي تشمل إبعاد شبح الحرب وتمكين الدولة من التمتع بفترة هدوء طويلة الامد قدر الامكان. 
لقد تم تحديد اربعة اهداف لـ»المعركة بين الحروب»: إضعاف عناصر القوة السلبية لدى المحيط، على غرار «حزب الله»، «حماس»، منظمات الجهاد وغيرهم، تقليص قوة الأعداء بوساطة منعهم، واحيانا بالقوة، من التزود بالوسائل القتالية الاستراتيجية «كسر التوازن»، الذي من شأنه ان يقيد من حرية عمل الجيش الاسرائيلي بصورة فاعلة ويزيد من احتمال الضرر المحتمل ضد اسرائيل، وخلق الظروف الجيدة للنصر في الحرب المستقبلية عن طريق تحسين قدرة العمل لدى الجيش الاسرائيلي، ترسيخ المشروعية لنشاطات اسرائيل، وسحب مشروعية عمل الاعداء. ومن الامور المستخدمة بهذا الخصوص، كشف منهجية طريقة عمله، باستخدامه الدروع البشرية. كل ذلك، بوساطة عمليات سرية، تدمج الى جانب النشاطات العسكرية، نشاطات اعلامية، اقتصادية، قانونية وسياسية. 

مواجهة
في المعارك الاخيرة في لبنان (2006) وفي قطاع غزة (2009، 2011، 2014)، عمل الجيش الاسرائيلي انطلاقا من وجهة نظر السحق والتحطيم، حتى ولو لم يتم التبني الصريح لسياسة تحطيم العدو على اعتبار انها المبدأ التوجيهي للعمل. فهكذا استخدم الجيش الاسرائيلي قوة هائلة وكثافة نيران، من اجل سحق قدرة العدو وبناه التحتية العملياتية. لقد دفعت الجبهة الداخلية في اسرائيل بسبب وجهة النظر هذه ثمنا باهظا، عبر عن ذاته في احتفاظ العدو بالقدرة على إطلاق الصواريخ والقذائف على الرغم من ديمومة القتال. فالعدو الذي لم يكن قلقا على بقائه، كان بإمكانه ان يظل موجودا على الرغم من حجم الدمار الناجم عن اعمال الجيش الاسرائيلي. 
على الرغم من وجهة النظر هذه، فإن وثيقة الجيش الاسرائيلي تعرض مجال عمل مختلفا اختلافا جوهريا: يوقع الجيش الاسرائيلي – ردا على التحديات – بالعدو ضربة مزدوجة، فورية وفي التوقيت ذاته. تفرد الوثيقة مكانا مهما للوظيفة الجديدة للعملية البرية، حيث تكون مهمتها التغلغل داخل ارض العدو بسرعة، من اجل تدمير وجوده السلطوي ولتدمير البنية العسكرية له. وفي المقابل استخدام كثافة نيران ضد آلاف الاهداف الموضوعة مسبقا والمتاحة. مع تدعيم مثل هذه الاعمال من قبل عمليات خاصة، عمليات تجسسية الكترونية (سايبرية)، استخبارية نوعية، والحماية الفاعلة قدر الامكان من نيران العدو. النشاط الفوري للمناورة يمكن القيام به عن طريق التدرج في عملية تجميع القوات. في المرحلة الفورية، حتى ولو كانت المناورة محدودة في اتجاهها بسبب قيود ترتيب القوات، فبإمكانها تحييد العوائق الجماهيرية (الاسرائيليين) والدبلوماسية (من قبل المجتمع الدولي ودول الشرق الاوسط) التي استثيرت في الماضي من اية عملية برية يقوم بها الجيش الاسرائيلي.

القيادة والتحكم
حظيت وجهة نظر القيادة والتحكم للجيش الاسرائيلي بفقرة منفردة لها في الوثيقة الاستراتيجية، وذلك ليس مصادفة. فبدءا من سنوات التسعينيات تطورت لدى الجيش الاسرائيلي نظرة مفادها انه من الممكن توحيد المشاكل العملياتية، والتي لها منطق عملياتي مشترك، تحت قيادة واحدة. وليس هذا فحسب، فوجهة النظر هذه عرضت ايضا اطارا منهجيا لتقييم الوضع، حيث كانت مهمتها بلورة ما يمكن تسميته عندها بـ»الفكرة العملياتية». هذا الاطار كان مختلفا عن العقيدة الاساسية للجيش الاسرائيلي، المعتمدة لديه منذ تشكيله. لقد استندت النظرة العملياتية على الادعاء القائل ان فن القيادة العملياتية يستوجب ادوات مميزة. لقد بلغ تغلغل وجهة النظر هذه داخل الجيش الاسرائيلي، خلال الحرب اللبنانية الثانية، وخلق إحراجاً وحيرة واحتكاكات. فقد رأت القيادات الميدانية في نفسها في عدة حالات قادةً للمعركة في ساحاتهم، وطالبوا بصلاحيات موسعة لاستخدام القوة. ولقد تسبب هذا الارتباك في السنوات الاخيرة في رؤية القيادات الميدانية كقادة قتاليين وطالبوا بصلاحيات موسعة لاستخدام القوة. 
وفي المقابل، فإن الوثيقة الاستراتيجية للجيش الاسرائيلي حررت رئيس هيئة الاركان من السيف المسلط عليه، والذي خلقته وجهة النظر العملياتية، واصدر تعليمات دائمة وواضحة ان رئيس الاركان هو القائد الميداني الوحيد في الجيش الاسرائيلي، وهو من خلال القيادة العامة وبوساطتها فهو القائد على جميع القادة الميادنيين وجميع التعليمات التي تخص استخدام القوة، وانه يقع على عاتق القيادات الرئيسية واجب تطوير معلومات ميدانية في ساحاتهم، في حين ان الموارد العملياتية متاحة فقط في ايدي القيادة العامة وهي تخصصها للقيادات الرئيسية وفقا للمهام. يوجد لهذا التحديد اهمية جوهرية: فتركيز القيادات الميدانية على المهام الملقاة على عاتقهم فقط يشكل حجر الاساس في وجهة النظر القيادية الجديدة للجيش الاسرائيلي. اما بخصوص تقييم الاوضاع، فقد حدد رئيس هيئة الاركان، ان اجراءات الادارة وادارة المعركة تكون موحدة في جميع حقول القيادة واساسها العقيدة الاساسية وبلغة مشتركة بسيطة وسريعة. (وهنا فقد اتبع رئيس هيئة الاركان طريق الجنرال باتو، الذي قال ان ما هو غير بسيط لن يكون بسيطا...). ان الاعتراف باهمية اللغة المشتركة لجميع الرتب في الجيش الاسرائيلي ادت برئيس هيئة الاركان ليقرر انه يجب اقامة مدرسة مركزية للقيادة والسيطرة لجميع القيادات. 
مبادئ بناء القوة
نظرا لضيق المساحة، من المناسب التركيز على اثنين من مجمل طيف المبادئ الواسع المطروحة بهذا الخصوص – وكلاهما يعرض التغيير الاساسي في استراتيجية الجيش الاسرائيلي فيما يتعلق ببناء القدرة على المناورة والنيران. يتطرق الاول الى وجهة النظر المتعلقة ببناء القوة البرية، وتحديدا بناء قدرة المناورة البرية. ويميز الجيش الاسرائيلي بين نوعين من المناورة، يتم تفعيلها معا: المناورة التي تركز على مراكز الثقل السلطوي لدى العدو، والمناورة امام المجال التكتيكي له. يسمح بناء القوة بتفعيل قدرات المناورة فورا في بداية المواجهة. ويتطرق الثاني الى بناء القدرة على استخدام النيران. كما حدد رئيس الاركان ايضا انه يجب تشكيل القوة، التي تسمح بإنزال «ضربات نيران هائلة بقياسات دقيقة، وفي زمن قصير قدر الامكان وبمجال اهداف كبير». هذه المطالبة، الى جانب المطالبة بقياسات المناورة، تدلل على ان الجيش الاسرائيلي هجر وجهة نظر التدرج في التصعيد التي رافقته في العقد الاخير، والتي بموجبها فانه في كل مواجهة تتم ادارة حوار متحرك دائم ومتعاظم مع العدو. ان بناء القوة يتيح حاليا استخدام مشترك وفوري للمناورة، للنيران، للعمليات الخاصة وعمليات التجسس الالكترونية (السايبرية).
ان تحليل الوثيقة الاستراتيجية للجيش الاسرائيلي ابعد من ان يستنفذ، ولكن حاليا من الممكن تشخيص مبادئ التغييرات في استخدام القوة للجيش الاسرائيلي كما وجدت تعبيرها في إطارها بشكل واضح. صيغة هذه التغييرات، المطلوب تنفيذها على المدى البعيد، هي حجر الاساس في هذه العملية المهمة، كما سيتم تنفيذه خلال السنوات المقبلة. من طبيعة الامور أن تطور العملية سوف يكون مرتبطا ارتباطا وثيقا بالميزانية، التي ستخصص من اجل تحقيقها لصالح تنفيذ التغييرات وكذلك ضمان قدرة قادة الجيش الاسرائيلي على استيعابها. لقد اثبتت تجارب الماضي ان اجراء تغييرات بعيدة المدى، كما وردت في الوثيقة الاستراتيجية للجيش الاسرائيلي، يستوجب تصميما وبدون مساومات.  

عن «مباط عليا»