في يوم التراث الوطني: التراث ليس للتذكر بل لمواصلة الوجود

عاطف أبو سيف.png
حجم الخط

عاطف أبو سيف

ربما لم يرتبط شعب بتراثه بقدر ارتباط الشعب الفلسطيني به، ولم يتعرض تراث شعب لمحاولة النهب والسرقة والتبني بقدر ما تعرض له التراث الفلسطيني. وفيما لا يبدو مفارقة، فإن التراث الذي حاول المستعمر أن يجعله منطقة نزاع ظل محصناً بإرادة شعبية كأحد حصون حماية الحقوق الوطنية والدفاع عنها. وفي اللحظة التي يحتفل فيها الشعب الفلسطيني باليوم الوطني للتراث، فإن ثمة حاجة ماسة لتطوير إستراتيجية وطنية لحماية التراث الفلسطيني وتعزيز التمسك به، خاصة في ظل تزايد محاولات سرقته وتزييفه وتضييعه، إنها الإستراتيجية التي يجب أن ترتكز على تقوية الملكية الوطنية للموروث على المستوي الخاص والعام، وهذا يتطلب إلى جانب الاحتفال والتذكير بالتراث وعناصره العمل على صون بعض هذه العناصر من التلاشي والاندثار أمام حركة "المدرنة" التي تجري بشكل طبيعي وفق سنن الحياة وزيادة وعي المواطن الفرد بأهمية هذه العناصر وبارتباطها بهويته وفرادة هذه الهوية. إن الاحتفال بيوم التراث لا يرتبط بإحياء شيء انتهي، فالتراث شيء موجود وهو يعني تحديداً تلك الأشياء المرتبطة بوجودنا وبفلسطينيتنا قبل وبعد كل شيء. وعليه فهو ليس احتفالاً بل احتفاء بهذا الوجود الفلسطيني وبكل ما يميزه وتمجيد لهذا التواصل على الأرض التي انتسبت لنا وانتسبنا لها. والاحتفاء يعني ضرورة البحث عن تعميق العلاقة بين الحاضر والماضي والبحث عن الاستمرار والترابط بين مكونات الهوية الوطنية التي تشكل عناصر التراث جينها الخاص.
الشعوب ترتبط بتراثها بطريقة خاصة، لكن الشعب الفلسطيني يرتبط وجوده ومستقبله بوجود هذا التراث. لنتذكر الصراع ليس فقط على الأرض بل على الحكاية، على ما جرى. فأمام أصالة الوجود الفلسطيني وصدق الرواية الفلسطينية المدعومة بكل اللقى والموجودات الأثرية هناك سرقة واغتصاب للتاريخ ولحكاية مزعومة يراد للجميع أن يصدقها لأن كل شيء في هذه البلاد ينفيها. الشعب الفلسطيني الذي وجد على هذه الأرض قبل اختراع التاريخ كفكرة وقبل أن يصل كل الغزاة والعابرين حتى بشهادة مؤرخيهم على ما يدعونه من كذب وتزييف، لم يكن بحاجة للبحث في عمق الأرض ليثبت وجوده عليها، فهو الذي يشبه رائحة البلاد وهو الذي ينتمى إلى كل شيء فيها، أما الغرباء فهم المنشغلون بالبحث عن أثر، لو صغير لهم، لذا يحفرون تحت الأرض وينقبون بين الصخور، ويدفنون بعض الموجودات حتى يأتي من يقول لاحقاً وجدنا شيئاً. أما صاحب البلاد وصاحب الحق فليس بحاجة لكل ذلك وليس بحاجة للدفاع عن مقولته التاريخية بقدر ما هو بحاجة لمواصلة وجوده على هذه الأرض، الوجود الذي يريد الغزاة أن ينهوه. ألم تكن فكرة التطهير العرقي التي نفذتها العصابات الصهيونية بحق الأبرياء العزل من سكان فلسطين خلال النكبة قائمة على تلك الفكرة. ومع هذا فإن الصراع ليس على الأرض فقط، بل على خلق وفرض الحكاية الوهمية عن الوجود الآخر على هذه الأرض. والحكاية الفلسطينية لا تكتمل إلا بنسيجها العام الذي يشكل الموروث الثقافي الفلسطيني جوهره. فالتراث الفلسطيني الذي يعني الثوب والأغنية والدبكة والمطبخ والتقاليد وكل ما يرتبط بالإرث غير المادي الذي هو ترجمة للموجودات المادية من مساكن ودور عبادة وغيرها، هو الدليل الحي على ارتباط هذا الشعب بأرضه وعدم افتراقه عنها. والتمسك به يعني التأكيد على هذه الضرورة التي لا بد أن تظل ملحة دائماً في ظل ما يحاوله الأعداء من نفي أهل البلاد عنها. وهذا هو جوهر ارتباط الفلسطيني بتراثه رغم ضرورة عدم نفي ارتباط الشعوب الأصلية ببلادها بشكل عام، لكن ثمة خصوصية فلسطينية وجب التنويه إليها.
فقد يرقص شعب ما رقصته الشعبية، وقد تصدح حناجر الأمهات بأغاني الأطفال وهن يحاولن تنويمهم في مكان ما وقد ترتدي فتاة ثوباً تقليدياً ما في دولة أخرى، لكن كل ذلك يتم وفق عادية ترتبط بالطقوس لكن حين يفعل الفلسطيني كل ذلك فإنما يفعله بألم كبير وبحنين أكبر وبإصرار أشد. فالغناء الفلسطيني كما الدبكة كما الثوب الفلسطيني تعابير صارمة عن الوجود الفلسطيني وارتباط الفلسطيني بأرضه وليست مجرد تقاليد متوارثة. فالتراث ليس تقاليد متوارثة بل هو استمرار لحكاية الوجود رغم كل المعيقات ورغم كل الصعاب. وعليه فإن التمسك بهذا التراث هو إصرار على استمرار الحكاية.
وأمام تمسك الفلسطينيين بتراثهم وموجوداتهم غير المادية إلى جانب قتالهم للحفاظ على موجوداتهم المادية تتواصل عمليات السرقة والاحتيال على التاريخ والحكاية والملبس والمأكل ونشاطات الروح المرتبطة بالمكان. ثمة مشاهد كثيرة تحيل إلى عمليات السرقة تلك ويمكن الإشارة إلى محاولة سرقة المطبخ الفلسطيني وصولاً إلى استخدام الثوب والتطريز في تزييف الوعي الخارجي. هذا يتطلب ليس وعياً فقط بالمشكلة التي تواجه التراث الفلسطيني والمخاطر التي تحيط به، بل أيضاً اتخاذ خطوات تجاه حمايته والحفاظ عليه. وكما أن الوجود الفلسطيني على هذه الأرض- نتذكر مبدأ الصمود الشهير في الأدبيات السياسية والكفاحية الفلسطينية، هو الانتصار الحقيقي للفلسطينيين أمام من يريد أن يسرق البلاد منهم، فإن التمسك بالتراث والحفاظ على وجوده واستمراريته وتعليمه للأجيال وعدم تركه يتلاشى أمام الممارسات الجديدة وحده من ينفي كل الروايات المضادة ويفند الأكاذيب ويفشل كل محاولات سرقة هوية هذه البلاد. وكما أن أعمار بعض أشجار الزيتون في بلادنا وحدها تكفي لتقول إن الغزاة مجرد عابرين مر قبلهم الكثير من الغزاة لأن عمرهم أكبر من كل إحالاتهم التاريخية، فإن مدى ارتباط الفلسطيني بالدبكة وبالموال والعتابا والميجنا كما ارتباطه بالثوب والكوفية، ليؤكد أن كل شيء في هذه البلاد يشبهنا، ويشبه حكايتنا على هذه الأرض، الحكاية التي نرويها كل يوم ونحن نعيد استذكار الأجداد الذين حملوا شعلة البقاء في البلاد التي أحبوها وأورثونا حبها. التراث ليس للتذكر بل لمواصلة الوجود.