تونس تنتخب وتحاسب

ريما كتانة نزال.jpg
حجم الخط

ريما كتانة نزال

في بداية الطريق نحو مشاركتي الاقليمية الأولى في الرقابة على الانتخابات التشريعية التونسية، كممثلة عن ملتقى النساء في السياسة بالمنطقة العربية، وضمن بعثة الشبكة العربية لديمقراطية الانتخابات، أجد نفسي محاطة بالأحاجي والألغاز، أبحث عن المعلومات والأدوات المفتاحية لفهم الواقع المتشكل خلال ثماني سنوات بعد ثورة الياسمين، الثورة التي قامت بتحريك الحجر الأول من أحجار لعبة «الدومينو» العربية، لكنها كباقي الثورات التي طالبت بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية واجهت المطبات والعراقيل واعترضت طريقها القوى المضادة للثورة.
سيتوجه التونسيون اليوم لاختيار رئيسهم الجديد وسط مفارقات معقدة، لتوزيع أصواتهم بين مرشح يملك تجربة يصفها التونسيون بالعذرية «قيس سعيد»، يتنافس مع مرشح مُحاط بشبهات وشكوك سياسية ومالية «نبيل القروي». المرشحان يتوجهان نحو استكمال الدورة الثانية لحسم مقعد الرئيس بعد تخطيهم المرحلة الانتخابية الأولى من بين ستة وعشرين مرشحا تنافسوا على المقعد، بينما سقط مرشحو أحزاب قديمة وعريقة بمن فيهم مرشح حزب النهضة الذين لم يخسروا  17 مقعداً فقط، بل خسروا جمهوراً عريضاً يُقدَّر بمليون صوت عن ما تحصلوا عليه في انتخابات 2011.
في كل الأحوال، رغم أن الدستور الجديد عدّل على صلاحيات ومهام الرئيس، مانحاً المجلس التشريعي صلاحيات أوسع ناقلاً النظام من الرئاسي إلى النيابي، لكن بقي اهتمام التونسيين منصباً على الانتخابات الرئاسية، واستحوذت على اهتمام الناخب والاعلام وفرضت نفسها على الجدل الدائر في الشارع وعلى الجهات الرسمية المعنية بالمتابعة التي بذلت جهودها لحل إشكاليات مُستجدة، من بينها تكافؤ الفرص الاعلامية بين مرشح في السجن ومرشح طليق، حيث بدا القانون عاجزاً أو محايداً تجاه البتّ في الحالة الغريبة.
 ذهاب التونسيين إلى تغيير المشهد الرئاسي بواسطة الصناديق أحدث صدمة في الرأي العام التونسي، سرعان ما استتبع بالصدمة الثانية على مستوى المجلس التشريعي، مشهدية ومخرجات تغييرية تكرس ما تمخضت عنه الانتخابات الرئاسية.
المخاض التونسي الذي تعيشه تونس، حيث يرسم التونسيون خارطة فسيفسائية تعبر عن حالة التفكك والتفتيت، وهو ما قامت بتظهيره استطلاعات سبْر الرأي العام، حيث أبدى 12% من التوانسة عدم ثقتهم بالاحزاب الرئيسية، وهو ما تبلور على أرض الواقع، فغاب عن المشهد التشريعي حزب «نداء تونس» الذي تفتت بعد خمس سنوات على تحقيقه المركز الأول في انتخابات 2014، كما غاب اليسار بسبب انقسامه وتشرذمه وعدم قدرته على تشكيل قائمة موحدة، لقد ذوَّب الخلاف على الزعامة اليسار فظهر بعيداً عن مصالح العامة، فقرر المواطنون تجريدهم منها على الأرض. وتحجَّم حزب النهضة الاسلاموي وتراجع عن موقعه السابق بعدد المصوتين وخسارته في الرئاسية وتراجع عدد مقاعده رغم تصدره القوائم. وعاقبت الصناديق الأحزاب الحداثية وأقصتها. وفي النتيجة الفسيفسائية سيواجه التونسيون معضلة تشكيل الحكومة، حيث لم يتمكن أي حزب من الحصول على أكثرية نيابية تتمكن من ضمان استقرار الحكومة في ضوء العداء العميق بين الاحزاب الناجحة.
التونسيون عاقبوا الاحزاب مرتين، لدى عزوفهم عن المشاركة وخاصة فئة الشباب التي كانت أكبر الفئات المقاطعة، كان للشابات في المقاطعة نصيب الأسد كونها الفئة المتضررة الأولى من البطالة، احتجاجاً على سوء الأداء والفشل في تحقيق انتظارات ثورة الياسمين أولاً، ومن ثم عقابهم عبر تشتيت الأصوات بين القوائم المرشحة في 33 دائرة منها ست دوائر في الخارج، بسبب المبالغة في عددها الذي تجاوز المنطق والعقلانية بترشح 1570 قائمة حزبية وجهوية وائتلافية ومستقلة.
وفي النتيجة خدم التشتيت القوى الأكثر تنظيماً وجاهزية في انقاذ نفسها. الشعب التونسي يُحاسب ويُسائل عبر الصناديق، ويُحمّل الاحزاب المسؤولية عن عدم استخلاص عبر ودروس ثورة الياسمين، التي تفجرت بسبب الفقر والبطالة، فوجد الشعب نفسه بعد الثورة أكثر: فقراً وبطالة وأميّة، وأكثر: تأزماً واحتقاناً وغضباً، خاصة الشباب والنساء.
التراجع المُشار إليه ينسحب على المرأة التي تميزت تاريخيا عن محيطها العربي، فشهد حضور المرأة خلال التحضيرات تراجعاً واضحاً قياساً بالانتخابات التشريعية في عام 2014. فقد بلغ عدد النساء اللواتي ترأسن القوائم الانتخابية للدورة الحالية بواقع 214 قائمة بمعدل 14%، في حين ترأست المرأة ثُلث عدد القوائم المقدَّمة في عام 2014. وبالنتيجة هبطت نسبة حضور المرأة في المجلس التشريعي من 33% عام 2014 لتصبح 20% من حجمه الحالي. في ظل قانون طليعي على صعيد المنطقة يقوم على أساس التناصف العامودي دون أن يتم اعتماد التناصف الأفقي والعامودي والتناوب كما هو حاصل في قانون انتخابات البلديات عام 2017 الذي أفرز حضورا نسوياً لا يقل عن 44% من حجم عضوية البلديات.
ولمزيد من التوضيح، ليس ابلغ من تدني نسبة مشاركة المرأة في الانتخابات بواقع 19٪ تقريبا من نسبة المشاركة العامة  للدلالة على رسالة المرأة الاحتجاجية على مواقف الاحزاب المتراجع على صعيد المساواة في تولي رئاسة القوائم الانتخابية التي اقتصرت على ترؤس النساء لِـ 13.7٪ منها بينما ترأس الرجال 86.3٪ من القوائم.
استمر تقدم المرأة بعد ثورة الياسمين في اتجاه تكريس المساواة في القوانين، وبنظري لا خشية على المسار الديمقراطي والدولة المدنية من ارتدادات ما بعد الهزات الانتخابية، فما تكرس في الوعي الجمعي لا يتم التراجع عنه أو بعثرته من قبل القوى المضادة، فالديمقراطية والحريات العامة خيار التونسيين الذي حمى الثورة وقدم نموذجها الفريد.