بقلم: أوري أفنيري
3 ايلول 2015
يجب أن نقرر: هل بنيامين نتنياهو شخص مخادع أم أحمق؟
خذوا، على سبيل المثال، سياسته بخصوص إيران. في الواقع، ليست هناك سياسة أخرى. فهذه هي السياسة الوحيدة التي لدى نتنياهو.
بحسب زعمه، تمثّل إيران خطرا قاتلا على إسرائيل. إذا حصلت إيران على قنبلة نووية، فليحفظنا الله، فإنها ستستخدمها من أجل محو إسرائيل من على وجه الأرض. يجب إيقافها بجميع الوسائل، ويفضَّل أن يكون بواسطة تدخّل عسكريّ أميركي.
يبدو أن هذا خطأ خطير (كما أظنّ فعلا) ولكن هناك منطق في ذلك.
إذاً، ماذا يفعل نتنياهو حيال ذلك؟
على مدى السنين أزعج نتنياهو العالم. كل يوم كان يطلق إلى الفضاء إنذارات مخيفة. أنقذوا إسرائيل! امنعوا تدمير الدولة اليهودية! امنعوا هولوكوست ثانية!ّ لا تسمحوا لإيران بصناعة القنبلة!
ولكن، لم ينصت له العالم. كان لديه الكثير من القضايا الأخرى لينشغل بها. هناك أزمات وافرة، انهيار اقتصادي، أوبئة، احترار عالمي، جموع اللاجئين.
ولكن نتنياهو لم يستسلم. وقف أمام كل ميكروفون، من الكنيست وصولا إلى الكونغرس الأميركي، كي يصرخ بهذه الرسالة.
في النهاية بدأ العالم بالانتباه. اليهود يحذّرون من القنبلة الإيرانية؟ حسنا، تعالوا نفعل شيئا. وليس أي شيء. تعالوا نتجمّع كلّنا، جميع القوى العظمى، من أجل إجبار إيران على وقف هذا الهراء.
قرّرا وفعلوا. الولايات المتحدة، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا وألمانيا - في الواقع، أمر كل العالم - إيران بالدخول في مفاوضات.
كانت قضية واحدة ووحيدة موضوعة على الطاولة: منع إيران من الحصول على القنبلة. لم يكن أي شيء آخر مهما. بالمقارنة مع هذه القضية الضخمة، فقد أصبح كل شيء آخر هامشيا.
وحينها حدث شيء غير متوقع. طرد النظام الإيراني الرئيس ذا الفم الكبير، وأستبدله بسياسي ذي لسان ليّن، رجل معتدل وحكيم. بدأت المفاوضات، وأرسلت إيران للمحادثات دبلوماسيا صاحب لسان أكثر لينًا، رجلا أكثر اعتدالا وحكمة. سُحر وزراء خارجية العالم.
في البداية لعب الإيرانيون لعبة القط والفأر، وحينئذ توصّلوا إلى اتفاق عام. حصل العالم على كل ما أراد. لن تكون هناك قنبلة نووية إيرانية على مدى زمن طويل. كانت الرقابة شديدة جدا. (في الواقع لا حاجة لهذه الرقابة. فوسائل التجسّس المتطوّرة في أيامنا ستكشف سريعا عن كل تحرّك نحو القنبلة).
كان الجميع سعداء. الجميع سوى نتنياهو. فقد كان يغلي من الغضب.
أي نوع من الاتفاق هذا؟
سيحصل الإيرانيون على القنبلة. إنْ لم يكن الآن، إذاً، بعد 15 عاما. أو 25 عاما. أو 50 عاما. بعد 100 عام.
سيُخادع الإيرانيون. فالفرس يخادعون دائما. ليس لديهم مناص، فذلك في طبعهم (ليس مثلنا. بنينا نحن في الخفاء عشرات القنابل النووية. ولكن بعد الهولوكوست، يُسمح لنا القيام بأمور كهذه).
على أية حال، إذا لم يحصل الإيرانيون على القنبلة، فقد حصلوا على الشرعية والكثير من المال. سيدعمون الإرهابيين كارهي إسرائيل، مثل «حزب الله» و»حماس» (هذا ليس مقنعا بشكل كبير، بعد أن طالب نتنياهو بالتركيز على القنبلة، والقنبلة فقط).
بدأت ماكينة الدعاية الضخمة لدى إسرائيل بالعمل. تم شتم هذا الاتفاق الفظيع فوق كل تلة عالية وتحت كل شجرة نضرة. علمنا طوال الوقت أنّ الرئيس باراك أوباما معادٍ للسامية، وكذلك وزير الخارجية جون كيري. والآن لدينا إثبات.
في الواقع، فقد انتهت اللعبة. تم الاتفاق مع كل العالم، ولن يختفي بسبب مقولة نتنياهو. حتى لو تغلّب الكونغرس الأميركي على فيتو أوباما فسيبقى الاتفاق. فقد سئم العالم من أهواء نتنياهو. حصل الرجل على كل ما أراد، فماذا يريد الآن؟
أعتقد أن الإيرانيين لم يرغبوا بالقنبلة بشكل كبير. بحسب جميع الشواهد، فقد رقصت الجموع في شوارع طهران عندما تم إنجاز الاتفاق. يبدو أن المزاج العام هو: «الحمد لله، لقد تخلّصنا من هذه الضائقة!».
ولكن القنبلة (غير الموجودة) قد تسبّبت لنا بالفعل بضرر هائل، أكبر ممّا كان سينجم عن قنبلة حقيقية، مخبّأة في مكان ما في مغارة مظلمة.
يتفق جميع الإسرائيليين على أنّ الرصيد الاستراتيجي الأكبر لدى إسرائيل يكمن في علاقتنا الخاصة مع الولايات المتحدة. وهي علاقة فريدة من نوعها في العالم.
فريدة من نوعها ولا تتثمن. تتلقى إسرائيل من أميركا تقريبا جميع الأسلحة الأكثر تطوّرا في العالم، في الواقع مجانا. وليس أقل أهمية من ذلك حقيقة أن إسرائيل ليست قادرة على خوض حرب لأكثر من أيام قليلة دون أن ترسل لها أميركا الذخيرة وقطع الغيار.
ولكن هذا هو مجرّد مكوّن صغير من منظومتنا الأمنية الوطنية. الأكثر أهمية هو معرفة أنّه لا يمكن تهديد إسرائيل دون المواجهة مع الولايات المتحدة. هذه مظلّة عظيمة، تجلب حسد كل العالم.
فضلا عن ذلك، تعلم كل دولة في العالم أنّه إذا أرادت الحصول على شيء من واشنطن، وخصوصا من الكونغرس، يجب المرور عبر إسرائيل ودفع الثمن. كم يساوي ذلك؟
هناك أيضًا الفيتو. ليس الفيتو الصغير الذي سيفرضه الرئيس أوباما على قرار الكونغرس ضد الاتفاق، وإنما الفيتو الكبير، ذلك الذي يوقف تلقائيا كل قرار لمجلس الأمن ضدّ أفعال إسرائيل، حتى الأفعال التي تصرخ للسماء. احتلال منذ 49 عاما، مئات آلاف المستوطنين الذين ينتهكون القانون الدولي. عمليات قتل يومية.
أن ندين إسرائيل؟ انسوا ذلك. عقوبات على إسرائيل؟ لا تُضحِكونا. طالما أن الولايات المتحدة القادرة على كل شيء تدافع عن إسرائيل، يمكنها، إذاً، أن تفعل ما تشاء.
كل ذلك يخضع الآن للشك. يبدو أنّ الضرر قد حدث فعلا، كالتصدّعات المخفية في أساسات المبنى. ستنكشف درجة الضرر في السنوات القادمة فقط.
وهناك صدع آخر بدأ بين إسرائيل وبين جزء كبير من يهود العالم، وخصوصا في الولايات المتحدة. تدّعي إسرائيل أنّها «الوطن القومي للشعب اليهودي». جميع يهود العالم مدينون لها بالولاء بلا حدود. تعمل الماكينة الضخمة لـ «المنظمات اليهودية» كشرطة سياسية فعالة بشكل عجيب. ومن يجرؤ من اليهود على الاعتراض؟
ليس أكثر. وقد بدأ صدع آخر أيضًا بين إسرائيل ويهود الشتات، وهو صدع ربّما لم يعد بالإمكان إصلاحه. عندما يأمرهم نتنياهو أن يختاروا بين رئيسهم وبين إسرائيل، يختار الكثير من يهود الولايات المتحدة رئيسهم، أو ببساطة يختفون. بالنسبة للكثير منهم، وخصوصا الشباب، فقد تعبوا من دولة إسرائيل ببساطة.
من هو معادي السامية الذي جلب لنا كل هذا الشر؟ رئيس حكومة إسرائيل.
هل يزعج كل ذلك العالم؟ ليس كثيرا.
في حين أن إسرائيل تنشغل بشكل وسواسي بـ «التهديد الإيراني»، تجري تغييرات ضخمة في منطقتنا. الانقسام الذي يعود إلى 1300 عام، وهو انقسام تم نسيانه تقريبًا، اندلع فجأة بكل قوّة بين المسلمين السنة والشيعة. هذا الانقسام، الذي يعود إلى بداية الإسلام تقريبًا، كان مخبّأ حتى الآن تحت النظام الاستعماري الذي فُرض على العالم الإسلامي في اتفاق سايكس-بيكو، الذي أنشأ في الحرب العالمية الأولى نظاما جديدا في «الشرق الأوسط».
والآن يحدث زلزال. يتغيّر المشهد تغييرا دراماتيكيا. تزول جبال، ومن ثم ترتفع جبال أخرى مكانها. يمرّ المحور الشيعيّ، الذي يمتدّ من إيران، مرورا بالعراق وسورية، إلى «حزب الله» في لبنان، فوق الكتلة السنية المكونة من السعودية ودول الخليج. تتدلّى ليبيا واليمن مثل أوراق متساقطة. وتتوق مصر إلى أيام الفراعنة. ومن بين كل هؤلاء ترفع قوة جديدة رأسها، مذهلة ومخيفة - «الدولة الإسلامية» (داعش)، والتي تجذب إليها الشباب المسلمين من جميع أنحاء العالم.
في قلب العاصمة المستعرة حولنا، فإنّ نتنياهو رجل من الماضي، رجل تم تشكيل تصوراته قبل عشرات السنين في عالم آخر. بدلا من مواجهة العالم الجديد، بمخاطره الكبيرة واحتمالاته الكبيرة، فهو ينشغل بالقنبلة غير الموجودة.
تُغيّر الولايات المتحدة والقوى العظمى مواقفها بحذر. فهي تخاف بشكل مبرّر من «داعش»، أكثر من أية جهة أخرى في المنطقة. إنها تشعر أنّ مصالحها تقترب من مصالح إيران، وتبتعد عن مصالح السعودية (وإسرائيل). الاتفاق النووي الجديد ملائم جدا لهذا النمط. صناعة المشاكل المتتابعة لدى نتنياهو غير ملائمة.
هل هناك جدل حول ذلك في إسرائيل؟ بالطبع لا. كل شيء يدور حول القنبلة، القنبلة، القنبلة. تحظى المشاحنات الصغيرة بين الدول المسلمة بالتجاهل.
سنة أو شيعة - الجميع نفس الشيء. معادون للسامية. منكرون للهولوكوست. كارهون لإسرائيل.
ولكن هناك أيضًا احتمالات كبيرة. تلمح السعودية وحلفاؤها في الخليج، مع مصر، فعلا، عن استعدادها للتعاون مع إسرائيل. بالسرّ بطبيعة الحال، في طيّ الكتمان. لا يمكن لأي زعيم عربي أن يصافح إسرائيل علنًا طالما أنّ جماهير العرب يرون كل يوم في التلفزيون الفظائع التي يرتكبها المستوطنون، والقتل الذي يمارسه جيش الاحتلال، وإذلال إخوانهم الفلسطينيين. نحن مثل سبّاح رُبطَ وزن ثقيل برجله. يمنعنا الاحتلال من الاستجابة للتغييرات في المنطقة.
في الآونة الأخيرة تتزايد الشائعات حول مفاوضات سرية بين نتنياهو وحماس من أجل التوصل إلى وقف إطلاق نار لثمان أو عشر سنوات، والذي سيكون في الواقع اتفاق سلام غير رسمي. إن اتفاقا كهذا كان سينشئ دويلة فلسطينية صغيرة في غزة، وكان سيعزل أبي مازن أكثر وكذلك الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني، الملتزم بمبادرة السلام العربية.
كل ذلك من أجل ماذا؟ من أجل توسيع المستوطنات وربما أيضًا من أجل ضمّ معظم الضفة الغربية («المنطقة ج»).
إذا كان الأمر كذلك، فهل نتنياهو هو شخص مخادع أم شخص أحمق؟ ساحر أم ساحر مبتدئ؟