الحرب التركية مفتوحة على احتمالات غامضة

حجم الخط

بقلم مروان كنفاني

جاءت الحرب التركية على شمال شرق سوريا كإضافة مزعجة للحروب والمواجهات المتعددة، القديمة والحديثة، التي تعصف بهذا الجزء من العالم منذ بداية القرن الماضي.

وفي الوقت الذي توقع فيه البعض من السياسيين التوصل إلى حل سريع لهذه المواجهة، فإن الغالبية أصبحت تشير إلى مستقبل طويل ومفتوح على احتمالات غامضة للتخلص من تداعيات تلك الحرب، لأنها ذات تاريخ مأساوي، وحلّها لن يكون بالسلاح بل بالاتفاق، ليس فقط مع الأكراد، بل أيضا بالتعاون مع القوى الرئيسية في الإقليم.

دخلت المنطقة التي يشغلها الأكراد منذ قرون عديدة مواجهات مع كافة الدول التي تتشارك معها على الجبهات الأربع، تركيا والعراق وسوريا وإيران. وبينما تم التوصل إلى اتفاق سلمي متعادل تقريبا بين الأكراد وبعض هذه الدول، مثل العراق وربما سوريا، فقد فشلت المحاولات الرامية للتوصل إلى حلول مماثلة مع دول أخرى.

تكمن خطورة هذه الجولة من المعارك في أنها جاءت متوافقة مع حروب محتدمة ومختلفة، داخلية وخارجية، لعديد من دول الشرق الأوسط، بينها حروب مستعرة في اليمن وليبيا وسوريا وفلسطين.

ونشهد اليوم بوادر صراعات داخلية في دول عربية مجاورة أخرى ومواقف متضاربة. لكن كيف ستؤثر هذه الحرب الجديدة على الأوضاع والتحالفات المختلفة، وعلى مستقبل العلاقة المتدهورة بين الأخوين الفلسطينيين اللدودين، فتح وحماس، حيث انقسما أيضا في موقفهما من الحدث الجاري؟

في نهاية الأسبوع الأول من الاجتياح التركي الجديد للأراضي السورية، ليس هناك ما يمكن الاستناد عليه أو التأكد منه كموقف صارم للولايات المتحدة أو روسيا تجاه وقف الاجتياح أو فرض هدنة أو تقديم حل يوقف التصاعد المنتظر للقتل والخراب وتهجير المدنيين.

كشف الاجتياح العارم عن موافقة مسبقة للولايات المتحدة على العمل العسكري مشروطة بعدم التهجير أو التنكيل، وهو ما أشار إليه ضمنيا الرئيس الأميركي دونالد ترامب بقوله “تجاوز الحدود”، وهدد أنقرة بالويل والثبور والعقوبات حال مخالفتها.

وتراوحت ردود فعل دول العالم بين إدانة دولية للاجتياح، وبين تفهم للتصرف التركي، وبين مطالبات بحل النزاع عن طريق التفاوض.

أدّى اختلاف المواقف إلى اختلاط الأوراق وتداخلها بشكل كبير. فهناك أطراف سورية مسلحة ومعارضة تحارب ضد التدخل التركي، ومنظمات سورية مسلحة أيضا تحارب بجانب الجيش والقوات التركية، ومنظمات إرهابية تفجّر المدن في المناطق التابعة للمعارضة المتصدية للاجتياح.

وتستعمل أنقرة منظمات معارضة للنظام السوري في حربها ضد الأكراد، بينما تشارك منظمات معارضة أخرى في التصدي للقوات التركية التي دخلت الأراضي السورية.

هناك تهديدات باستعمال سلاح اللاجئين المتمثل بفتح الحدود للملايين من الراغبين في العبور إلى أوروبا عبر الأراضي التركية. ويبقى السلاح الخطير هو التهديد بإطلاق سراح المعتقلين من رجال وأسر تنظيم داعش المكدّسين في السجون الكردية والعودة للعمل بكثافة في الشرق الأوسط. وقد تكون الهجمات الجوية للطيران التركي على السجون المتواجد فيها هؤلاء جزءا من المخطط.

العامل الأسوأ في هذا الموضوع هو الحقيقة التي سوف تدركها الأطراف المعنية من أن وضع نهاية لهذه المغامرة ربما لن تكون قريبة، ولن تكون دون دفع ثمن غال، لأن احتلال عشرات الكيلومترات من الأراضي السورية لن يوقف الوضع المتأزم الذي تعاني منه تركيا، فقريبا ربما ينضم النظام السوري وحلفاؤه إلى المعركة، ليس لدعم الأكراد فقط لكن لتحرير الأراضي من الاحتلال التركي.

كما سيتقلص التبادل التجاري وقوافل الآلاف من السواح العرب في شوارع وساحات إسطنبول. ولن تنظر إيران الشيعية بعين القبول والرضى لأي انتصار تحققه غريمتها السنيّة، وهي ليست غافلة عن اهتمام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإعادة الخلافة العثمانية، لكنها تنتظر البعد الحقيقي لمخططاته، في وقت هي مشغولة فيه بالاهتمام بتوسيع نفوذها في لبنان وسوريا واليمن والخليج.

وجاءت علاقاتها الجيدة مع إيران نتيجة لجهود روسيا للتوسط في إنهاء المشكلة الكردية التي يعاني كلاهما منها، والتي انهارت بالتدخل في شمال شرق الفرات. ولا ننسى أن سوريا هي الحليف الأقوى لإيران في منطقة الشرق الأوسط.

نجح النظام التركي في استعداء جملة الدول التي تجاور وتحيط ببلاده. فأنقرة تربطها علاقات باردة بدول حلف الأطلسي، رغم كونها عضوا مؤسسا فيه. وفشلت في الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة التي يرفض أعضاؤها انضمام أنقرة.

وتعاني أنقرة من الفتور التاريخي مع جارتيها، اليونان وجمهورية قبرص، ويمكن أن تنفجر تلك العلاقات قريبا حول اكتشافات الغاز في شرق البحر المتوسط.

تتعامل تركيا مع جزء من ليبيا وتتدخل بالدعم العسكري لحكومة الوفاق المتحالفة مع الميليشيات، وتعادي مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية ومعظم دول الخليج، وتبدو أنقرة عاجزة عن تحقيق علاقات متينة مع لبنان والعراق واليمن.

يتوجه التوافق الدولي، بما فيه الموقف الأميركي والروسي، إلى التفكير في نقاط عدة لمواجهة الوضع العسكري والسياسي والإنساني المتفجّر الناجم عن الاجتياح العسكري التركي للأراضي السورية، فإما وقف التدخل العسكري وفرض انسحاب قوات الجيش والمنظمات المتحالفة معه، من الأراضي السورية في أسرع ما يمكن، أو التركيزعلى حل النقاط التي تسببت في لجوء أنقرة للحرب، أو قيام الأمم المتحدة بوساطة وعقد اجتماعات مشتركة للتوصل إلى اتفاق نهائي عادل بين الطرفين التركي والكردي.

لكن لا يزال الوقت مبكرا لتحقيق تحسّن في الوضع الميداني، وسط تمسّك الطرفين بمواقفهما. فالأتراك يصرون على عدم الانسحاب أو التفاوض، ويرفض الأكراد وقف القتال ويتعهدون باستمرار التصدي للقوات الغازية. وتتوالى الإدانات الدولية والدعوة لفرض عقوبات ومنع توريد السلاح والتي أصبحت تملأ الآفاق، بينما تواصل تركيا عملياتها العسكرية ويتساقط القتلى والجرحى من المدنيين.

تشير معطيات كثيرة إلى أن تركيا قد تقع في فخ التوسع في الحرب التي لن تؤدي إلى الاستقرار بل إلى التصعيد والمزيد من الضحايا والخسائر الاقتصادية. ومهما كانت النجاحات التي قد يحققها الجيش التركي ستزيد من فرص المقاومة على العمل وتضطر المسؤولين في أنقرة إلى إرسال المزيد من الجنود والعتاد، وتوفير فرص أفضل للمقاومة.

وقد تنتقل الحرب من اجتياح مؤقت يمكن السيطرة عليه إلى حرب استنزاف طويلة مع الدولة السورية وحلفائها. ولعل تجربة الولايات المتحدة في فيتنام، والفرنسيين في الجزائر، والاتحاد السوفييتي في أفغانسنان، ماثلة في الأذهان ومن الأدلة التي لا تقبل الشك.