نبع «الحرب»

مهند عبد الحميد.jpg
حجم الخط

مهند عبد الحميد

قد تصلح تسمية العملية العسكرية التركية «نبع السلام» لاستخدامات كثيرة ما عدا «السلام»، في الوقت الذي تبدو فيه حاجة الشعب السورى للسلام ماسة وضرورية بعد 8 سنوات من الحرب التدميرية التي حرقت الأخضر واليابس ودفع وحده أثمانها الباهظة ولا يزال يدفع.
بدلاً من «السلام» و»غصن الزيتون» التي احتلت بلدة عفرين الحدودية باسمها، بدأ فصل جديد من حرب النفوذ والسيطرة، بتوافق المتدخلين الكبار.
فهذا ترامب العجيب يعطي الضوء الأخضر ويسحب قواته ممهداً الطريق للاجتياح التركي، متخلياً عن حليفه المدلل «قوات سورية الديمقراطية» بأبخس الأثمان، انسجاماً مع مصالح أميركا الحيوية التي ترى في تركيا حليفاً أهم من الأكراد من جهة، وانسجاماً مع حسابات ترامب الضيقة في الربح والخسارة، فهو يرسل قواته حيث يوجد المال والدفع فقط.
مقابل بوتين روسيا اللاعب الأقوى في الحرب على سورية الذي لا يعارض الاجتياح التركي بانتظار قطف أثمانٍ إضافية من صراع الآخرين. والاتحاد الأوروبي يقايض الاجتياح التركي للشمال السوري باستيعاب المهاجرين في ما تسمى المنطقة الآمنة الموعودة التي ستقطع الطريق على تدفقهم للبلدان الأوروبية كما وعدهم أردوغان، وإيران وميليشياتها تستعد لتوسيع نفوذها  تحت شعار استعادة سيطرة الدولة السورية بعد انكسار قوات سورية الديمقراطية، غير أن هذا التوسع رهن بالقرار الروسي.
الدول العربية تحافظ على دور شاهد الزور الذي لا حول له ولا قوة في قرارات الحرب وصفقاتها وألاعيبها، كعادتها تكتفي بإدانة العدوان (وكفى الله المؤمنين شر القتال). 
هذا الفصل من حرب المصالح لا يختلف عن الفصول السابقة للحرب، كل المحاربين يجتمعون تحت مسمى التحالف الدولي ضد الإرهاب، ويتفقون على محاربة «داعش» من الجو والبحر والأرض، وفي واقع الحال هم يمارسون الإرهاب بأبشع الأشكال والصور ضد الشعب السوري،  ويتقاسمون الحصص على الأرض بحسب ميزان القوى، ويتبادلون الاتهامات بحسب الأيديولوجيا وخطاب المقاومة والممانعة وخطاب المال والربح، وفوبيا اللاجئين وغير ذلك من عهر سياسي. في هذا الفصل من الحرب كما في الفصول السابقة يهترئ الخطاب السياسي والإعلامي الذي أصبح عصيا على السمع والاحتمال.
استخدمت قوات سورية الديمقراطية ذات الغالبية الكردية من قبل الولايات المتحدة ودول أوروبا كورقة جرى اللعب بها حتى استنفدت أغراضها من وجهة نظر مصالحهم، وكانت بمثابة قوتهم الضاربة على الأرض، وعندما انتهت وظيفتها جرت مقايضة التخلي عنها بثمن تدفعه تركيا. ذهب كل الكلام الجميل عن الشعب الكردي وحقه في تقرير مصيره أدراج الرياح. لم يكن ذلك مفاجئا، فقد سبق للغرب أن رفض مجرد استفتاء كردستان العراق على تقرير المصير، لمعرفة إذا ما كان الشعب الكردي يرغب في الانفصال عن الدولة العراقية أو الاتحاد معها.
انحازت أميركا ودول أوروبا للدولة العراقية وفرضوا تراجعا مهينا على إقليم كردستان العراق. الآن يتكرر الموقف من أكراد سورية الذين أرادوا ثمنا لدورهم بأن يكون لهم كيان مستقل في الشمال السوري على الحدود مع تركيا، لكنهم وضعوا تحت رحمة أردوغان الذي يناصبهم عداءً جذريا، ويتلمظ على سحقهم وإخضاعهم.
لم تكن المشكلة عند الغرب المنحاز لمصالحه حتى النهاية فقط، ولا عند النظام الأسدي الذي كان له باع طويل في التمييز ضد الأكراد على أساس العرق وفي قمعهم كما قمع كل المكونات السورية. بل كان أيضا عند الحزب الكردستاني في سورية.
وكما قال الكاتب السوري الكردي سليم بركات: «لا نريد الخروج من عبودية أصنام البعث، إلى عبادة أصنام الحزب الكردي الذي آمن بإلغاء كل مخالف لضحالة منطقه السياسي»، مشبهاً الحزب الكردي بحزب البعث، حين قال: مهزلة فرع بعث أوجلان الكردستاني أنه أقل من بيدق في لعبة الصنم البعثي على شطرنجه مع تركيا. ووصل الكاتب المرموق بيت القصيد بالقول: لا نريد جر كرد شمال سورية إلى مساومة وضيعة، فثورة الكردي في سورية هي من أجل الجولان ودرعا واللاذقية وعامودا وسري كايني لا من أجل إنعاش خيال الإخفاق عند فرع البعث الكردستاني. ما أراد الكاتب قوله إن تفرد الحزب الكردي في طرح المسألة الكردية في سياق كولونيالي، وانفصاله عن القضايا المشتركة مع بقية أبناء الشعب السوري أوصل إلى هذه النهاية المأساوية.
المشكلة بكل عناصرها يلخصها الآن الهجوم التركي على شمال سورية، لم يكن من باب الصدفة أنه جرى وداع الجنود الأتراك قبل اجتياحهم بعزف الموسيقى العسكرية التي كانت تعزف للجيش الانكشاري العثماني في زمن الامبراطورية.
يبدو أن أردوغان يحن إلى عهد السلاطين ويحاول الحذو حذوهم في التوسع والسيطرة والنهب. الأهداف المعلنة للاحتلال التركي هي محاربة منظمة إرهابية كردية وإبعادها عن الحدود التركية، وإيجاد منطقة آمنة لإعادة ملايين اللاجئين السوريين. السؤال: لماذا لا يتم الاتفاق مع  الشركاء الذين أجازوا الهجوم التركي مباشرة ومواربة على إيجاد تلك المنطقة الآمنة؟ وقبل ذلك،  لماذا لا يعاد طرح الحل السياسي على بساط البحث بعد أن فشلت كل التدخلات العسكرية وانتصاراتها في إيجاد ذلك الحل. لماذا لا تطرح قضية إعادة اللاجئين إلى مدنهم وبلداتهم ومخيماتهم وإعادة الإعمار كجزء من الحل السياسي الذي يستجيب أولا وقبل كل شيء لمصالح الشعب السوري.
لا يمكن الاقتناع بأن اللاجئين الذين هجروا من درعا ودمشق والقصير وحمص وحلب، سيوطنون في الشمال السوري في منطقة مشتعلة بعيداً عن مكانهم الأصلي.
الهدف الحقيقي هو تطهير عرقي وتبديل سكان وتوسع، سيدفع ثمنه المواطنون السوريون الأكراد على نحو خاص.
وسيقطع مثل هذا المشروع التوسعي الطريق على عودة اللاجئين السوريين إلى أماكنهم الأصلية. وعلى استئثار تركيا بعنصر تفاوض على حل سياسي يحافظ على أطماعها الاستعمارية. وسيساهم في تقرير مصير الشعب السوري من قبل المتدخلين وأصحاب الأطماع الإقليمية  الاستعمارية أمثال روسيا وإيران ودولة الاحتلال الإسرائيلي.
لقد أدى انفصال المعارضة السورية عن شعبها وقبولها الخضوع لإرادة الداعمين، والقوى السياسية الكردية كانت السباقة إلى الانفصال. هذا الانفصال وضع مستقبل ومصير الشعب السوري بيد الطامعين في السيطرة على سورية وتقاسم تركة النظام السوري المريض الذي أصبح جزءا من اللعبة الاستعمارية مقابل أن يبقى في الحكم بأي ثمن.
الفصل الجديد من الحرب على سورية يستدعي إعادة بناء حركة وطنية سورية مستقلة تعبر عن مصالح الشعب السوري بكل مكوناته وبخاصة المكون الكردي وتدافع عنها.