ملاحظات من "جيل الهزيمة"... حول المخاوف على المستقبل العربي

حجم الخط

بقلم: طلال سلمان*

 

عاش جيلي الذي ولد قبيل منتصف القرن الماضي نكبة فلسطين التي لم يكن ممكناً تصديق وقائعها المهينة، كما قدمها الإعلام الرسمي العربي ومفادها ان العصابات الصهيونية، بعنوان "شتيرن" و "هاغاناه" استطاعت ان تهزم الجيوش العربية لكل من مصر وسوريا، مع مشاركة رمزية من الجيش اللبناني حديث الولادة ومئات من المتطوعين العراقيين أو من أقطار أخرى.

لم يحدثنا رؤساؤنا والملوك والأمراء ممن كان معظمهم تحت الوصاية الأجنبية عن النقص في الإرادة والعزم والقدرات العسكرية.. فالجيش المصري (الملكي آنذاك) ذهب الى الحرب بسلاح فاسد. وشهيرة تلك الجملة الدامغة التي كان يهتف بها الجنود وهم يبعدون وجوههم عن البنادق وهم يطلقون النار ومعها الدعاء: "يا رب تيجي بعينه".

وسيمضي زمن قبل أن يعرف المصريون وسائر العرب ان المقاتل المصري كان يملك سلاحاً فاسداً ومستهلكاً تنطلق رصاصات بنادقه من الخلف، لفسادها، فتقتل حامليها بدل أن تتجه الى جنود العدو فترديهم.

في أي حال فان مجموع من استنفر من وحدات الجيوش العربية حديثة النشأة كان أقل بكثير مما تحتاجه تلك الحرب التي كان خلف العصابات الصهيونية دعم الدول الكبرى، بريطانيا أساساً، وقد كانت منتدبة على فلسطين، ثم الاتحاد السوفياتي الذي أمل أو توهم بتحول العصابات الصهيونية (شتيرن والهاغاه) الى الشيوعية أو نصير لها خصوصاً وأن آلافاً مؤلفة من يهوده قد غادرته الى فلسطين لتقاتل ضد أهلها العرب.. وكل هذا قبل أن تندفع اليه اليهود الذين تدربوا في صفوف جيوش الحلفاء (بريطانيا وفرنسا)، قبل أن يأتي المدد القوي بل المؤثر من صفوف اليهود الألمان الذين نجوا من الحرق في أفران النازية في ألمانيا وبولونيا وأقطار أوروبية أخرى.

في أي حال فان العصابات الصهيونية المعززة بآلاف "المتطوعين" من الجنود المدربين على الحرب، عبر المشاركة الميدانية، إضافة الى من جاءها أو استنفر فاستقدم من بعض البلاد حيث كان اليهود يعيشون كمواطنين وإن اشتهروا كمرابين وتجار وأصحاب حرف بمداخيل محترمة.

***

على هذا فقد كان واضحاً، وطبيعياً، ومنطقياً بل حتمياً أن تهزم هذه الوحدات العسكرية العربية، ناقصة التدريب والتجهيز، بأسلحتها المحدودة أو الفاسدة (كما وحدات الجيش المصري حيث استشهد البطل أحمد عبد العزيز وحوصر رفاقه وبينهم جمال عبد الناصر في منطقة الفالوجة، لنقص السلاح والذخيرة ) خصوصاً وفي مواجهتها جيش مدرب بكفاءة، ترفده مجاميع الجنود والضباط "المتطوعين" الذين جاءوا مباشرة من ميادين القتال في الحرب العالمية الثانية الى فلسطين، رأساً، ليواجهوا كتائب محدودة من الجيوش العربية، تساندها مجموعات من المتطوعين بقيادة (سياسية) يمثلها فوزي القاوقجي.

وصحيح أن كثيراً من الضباط والجنود والمدنيين من ذوي الوعي السياسي قد فضلوا القتال كمتطوعين (بينهم أكرم الحوراني) على التطوع في الجيش ضعيف التجهيز والإعداد، لكن الصحيح أن حماسة هؤلاء كانت أعلى كثيراً من خبرتهم القتالية، لكنهم – في أي حال – رفعوا الروح المعنوية للشعب العربي.. قبل أن تدمرها الهزيمة.

***

ليس هذا حديثاً في الماضي، ولا هو قاصر على قضية فلسطين، بل هو يستهدف الوضع السياسي القائم في الوطن العربي، والذي بين خصائصه الإنقسام بل الاختلاف في الأهداف بين القادة والذي كثيراً ما يغطي بالنفاق أو المزايدة أو ارتهان بعضهم للخارج كما أثبتت حرب تشرين الأول 1973، والتي أوقف فيها السادات اطلاق النار، فتجمد الجيش المصري بعد اقتحامه البطولي لخط بارليف... متخلياً عن شريك دمه الجيش السوري الذي كان قد أرتقى تلال الجولان وحررها وطارد القوات الاسرائيلية نحو بحيرة طبريا، قبل أن يباغته قرار السادات بوقف الحرب بينما شارون يتوغل من البحيرات المرة في اتجاه القناة مقترباً من القاهرة، قبل أن يتدخل "الوسيط الأميركي" كيسنجر، المتفاهم مع السادات، لإيقاف الحرب، بمعزل عن الشريك السوري، الذي اضطرت قواته الى التراجع لتحمي "الداخل".

تحول النصر العسكري، وبسرعة قياسية، الى هزيمة سياسية مدوية. وتكررت المحاولات للوصل الى "تسوية" بالمفاوضات أشهرها لقاء القمة بين الرئيس السوري حافظ الأسد والرئيس الأميركي بيل كلنتون، في جنيف، والذي لم يستغرق أكثر من ثلاث دقائق، خرج بعدها الرئيسان متفارقين.

كان السبب أن الرئيس الأسد أصر على استعادة الجولان كاملاً، حتى بحيرة طبريا، مبلغاً الرئيس الأميركي كلينتون: "لقد كنت أسبح فيها وأنا ملازم في الجيش السوري، فكيف أتنازل عنها الآن، وقد أصبحت الرئيس وصاحب القرار؟!".

***

الحديث عن الماضي مثير للأحزان، لكن الحديث عن المستقبل في ظل هذا التفكك الذي يضرب وحدة الموقف، وبالتالي القرار العربي مثير للخوف بل القلق على وحدة الأمة جميعاً، وليس قرارها فحسب.

تكفي نظرة، ولو سريعة أو متسرعة، الى احوال انقسام العرب، في هذه اللحظة، حتى حول قضيتهم المقدسة فلسطين، المتروك شعبها لقدره، بينما العديد من الدول العربية قد أسقط المقاطعة وأقام "علاقات طبيعية" مع العدو القومي، غاصب الأرض، محتل أقدس الأرض العربية بالمسجد الأقصى (الذي باركنا من حوله) وكنيسة القيامة، حيث رفض الخليفة عمر بن الخطاب أن يصلي فيها، وخرج مبتعداً عنها حتى لا يأخذها المسلمون بزعم "هنا صلى عمر".

اليوم، العرب منقسمون الى حد الاقتتال (اليمن، ليبيا)، أو أن دولهم وكياناتهم السياسية مهددة في وجودها أو في الوحدة السياسية والشعبية لكل منها (العراق، سوريا)، هذا اذا ما قفزنا فوق الاضطرابات وتظاهرات الغضب في (لبنان والأردن) وفوق اندثار (الجماهيرية العربية الليبية)..

هذا من دون أن ننسى الغزو التركي الوحشي لسوريا انطلاقاً من شمالها، وبذريعة مقاتلة الأكراد، في أرضهم وهويتهم السورية، ورفض جامعة الدول العربية عودة سوريا الى موقعها ومقعدها فيها، والمفاوضات التي لا تنتهي بين النظام ومعارضيه في سوريا التي انهكتها الحرب.

... والبقية تأتي!

*رئيس تحربر "السفير" اللبنانية

ينشر بالتزامن مع جريدة "الشروق" المصرية