تونس تجدد الثقة بالربيع العربي

طلال عوكل.jpg
حجم الخط

طلال عوكل

ثمة ضرورة لعودة النقاش، الذي نشط لفترة قصيرة، مع بدايات الربيع العربي، ثم انكفأ نحو التشاؤم، مع ظواهر التعثر، ولون الدم الذي ساد المشهد العربي. المخطط الأميركي ـ الإسرائيلي تجاه المنطقة تحت عنوان الفوضى الخلّاقة، والنظام الشرق أوسطي الجديد، لا يزال فاعلاً، ولكن الشعوب العربية، أثبتت أنها قادرة على إفشال تلك المخططات وشق الطريق نحو مستقبل مختلف. نعم ثمة نماذج في الوضع العربي، لا تزال تصارع نحو مستقبل مختلف، وتدفع أثماناً باهظة، لكن طريق المجد والانتصار حافل بالتضحيات.
لم يكن ممكناً، تغيير الواقع العربي المتخلف والمحكوم لأنظمة استبدادية أو قبلية، أن يستبصر طريقه إلى النور، دون تضحيات، وينتظر العرب مزيدا من التضحيات لجسر الهوة الواسعة، التي تفصل الأمة العربية عن الدول المتقدمة.
ما تمر به الأمة العربية بشكل أو بآخر، ومع فوارق، كانت الشعوب الأوروبية قد مرت به، حتى وقع التغيير في مرحلة تحالف الإقطاع مع الكنيسة، وقد دفعت الشعوب الأوروبية عشرات ملايين البشر قبل أن تضع أولى أقدامها على طريق التطور، الذي استلزم من بين استحقاقات أخرى فصل الدين عن الدولة.
في بلادنا العربية سعت وتسعى الجماعات الدينية، لفرض مشروعها ورؤيتها، وسيطرتها على النظام العربي، لكنها فشلت فشلاً ذريعاً، ما جعل الكثير من تلك الجماعات تتحول إلى جماعات إرهابية تسعى وراء الثأر والانتقام، دون أن تدرك أن عجلة التاريخ لا يمكن أن تعود القهقرى.
لم يدر في خلد المتشائمين، الذين صفقوا لثورة الياسمين فاتحة الثورات العربية، أن تونس لن تعود إلى الخلف، وأن أثواب الأنظمة البائدة لم تعد تستجيب لمقاساتها. تونس التي خرج شعبها في ثورة بيضاء، وبمساعدة جيشها الوطني، الذي لعب دور الحامي للثورة ترسم اليوم طريقها إلى التغيير نحو الديمقراطية، ودولة المواطنة، والعدالة الاجتماعية. المخاض الذي دخلته تونس كان عسيراً لكن الناس لم يغادروا الحلم، ولم يغادروا حلبة الصراع، وها هي تحاكم الأنظمة السابقة، والحالية في المنطقة، وتحاكم الأحزاب السياسية، وتثبت أن الشعب قادر على انتزاع دوره وحقه باعتباره مصدر السلطات.
يفوز أستاذ الحقوق المستقل قيس سعيِّد، بالرئاسة، وبنسبة عالية جداً، تقترب من ثلثي الناخبين، وينتصر على ممثلي الأحزاب وأقربائهم، ومناصريهم.
أحزاب غادرت المشهد السياسي، بعد الانتخابات النيابية لأنها لم تحقق نقطة الحسم، وأحزاب كبيرة، تراجعت على نحو مأساوي، وأحزاب أخرى ظهرت فاعلة على الساحة.
حزب النهضة الإسلامي، أكبر الأحزاب، تراجع على نحو ملحوظ حيث خسر 17 مقعداً قياساً بالانتخابات السابقة، في عام 2011، كانت شعبية النهضة تصل إلى نحو مليون صوت، أما في انتخابات 2019، فإن رصيده لم يزد عن نصف مليون صوت لا يحق لأي حزب في تونس أن يدعي بأن الرئيس سعيِّد، محسوب عليه، فلقد حصل الرجل على دعم ثلاثة ملايين صوت، تفوق الأصوات والشعبية التي تحوز عليها كل الأحزاب مجتمعة. لقد نجح سعيِّد بأصوات الشباب والنساء والفقراء والمهمّشين، الذين كانوا دينامو الثورة ومحرك التغيير. الشعب الفلسطيني تفاعل بقوة مع الانتخابات التونسية ليس لأن الرئيس سعيِّد، أعلن في أول كلام له، أن القضية الفلسطينية من أولويات تونس، وأن من يمارس التطبيع خائن، وإنما، يظهر هذا التعاطف، جوع الفلسطينيين للديمقراطية، وتفاؤلهم بتغيير الواقع العربي، في اتجاه استعادة دوره إزاء القضية الفلسطينية باعتبارها أولى أولوياتهم، وجوهر الصراع والسلام في المنطقة. يعرف الفلسطيني أن صلاح أحواله، واستعادته الأمل بتحقيق الانتصار مرتبط أشد الارتباط بحال الأمة العربية.
تونس الدولة البعيدة عن مركز الصراع، والمتواضعة في إمكانياتها تتحدى الولايات المتحدة وإسرائيل، وتتحدى أنظمة التطبيع العربي، وتعيد تصويب السهم في الاتجاه السليم، الذي غادرته الأمة العربية نحن مراهنات خطيرة، لا تضمن لها أمناً ولا سلاماً.
تونس ليست وحدها التي تقدم نموذج تحرر الإرادة الشعبية، وفرض عملية التغيير، فجارتها الجزائر، بدأت تشق الطريق في ثورة بيضاء على الواقع، ونحو التغيير لفتح آفاق الديمقراطية ونظام الشراكة السياسية والمواطنة.
قبلها نجح الشعب السوداني، وأيضاً، عبر ثورة بيضاء، بشق طريقه نحو كنس آثار النظام السابق الذي استمر ثلاثين عاماً كان من ثماره المرة، انقسام السودان، وانتشار الممارسات العنصرية، وظواهر الاقتتال الداخلي، وإفقار الشعب. لا يمكن لأحد أن يشك في أن الدور الأميركي ـ الإسرائيلي كان غائباً عما جرى ويجري في تونس والجزائر والسودان، لكن إرادة التغيير كانت أقوى بكثير. التغيير لا يقف عند هذه النماذج فقط، فالعراق يشهد حراكاً قوياً نحو الإطاحة بنظام الطائفية والفساد، والاستقطاب بين استراتيجيات إيرانية وأميركية. العراق مقبل على ثورة عارمة ستطيح بكل الإرث الذي خلفه الغزو الأميركي. حتى سورية التي لا تزال تصارع بقوة، وتدفع أثماناً باهظة، فإنها تقترب من مرحلة التحرر من مخلفات التآمر الدولي والإقليمي، وأنها تتجه نحو التغيير الديمقراطي، إذ لا يعقل بعد كل ما جرى، أن تعود الأوضاع إلى ما كانت عليه من حيث طبيعة النظام السياسي. الأمة العربية تولّي وجهها نحو الشمس، في عملية تغيير استراتيجي هي استحقاق تاريخي يفصل بين مرحلتين.