كيف إستطاع وايزمان بناء "حكومة يهودية مُموّهة بغطاء بريطاني" في فلسطين ؟

حجم الخط

بقلم: الدكتور رفيق الحسيني

 

في الذكرى الثانية بعد المائة لوعد بلفور ، وددتُ وضع بعض النقاط على الحروف فيما يخص بشخصية الزعيم الصهيوني حاييم وايزمان وعلاقته بالقيادة البريطانية في لندن والقدس قبل وبعد الحصول على ذلك الوعد المشؤوم.

في العام 1903 كان وايزمان – الأستاذ في جامعة جنيف - عضوًا في المؤتمر الصهيوني السادس الذي طالب هرتزل أعضاءه تأييد فكرة الاستيطان في أوغنده. وعندما أُحيلت القضية للتصويت، قرر حاييم التصويت ضد مشروع أوغنده بينما صوّت والده أويزر، وكان أيضاً عضواً في المؤتمر، مع المشروع. وعلى أثر الخلاف الحاد وخيبة الأمل الشديدة التي أصابت العديد من القيادات الصهيونية من جراء طرح هرتزل، قرر وايزمان أن يركّز على مستقبله العلمي ، لذلك إنتقل في 1904 إلى جامعة مانشستر في بريطانيا.

في مكان اقامته الجديد، نشر وايزمان العديد من الأبحاث العلمية مُسجّلاً عدداً من الاكتشافات في مجال الكيمياء الحيوية والأحياء الدقيقة، وبدأ يلتقي – في الوقت نفسه - بالشخصيات السياسية البريطانية ، فيُحوّلها "بسهولة كبيرة" الى حظيرة الصهيونية ، فقد قيل أن شخصيتة كانت جد جذّابة.

وفي المقابل ، كان الساسة البريطانيون توّاقين لسماع حلول عملية لمشكلة اللاجئين اليهود الذين أخذوا يفدون بأعداد كبيرة للإقامة في بريطانيا والاستقرار فيها، الأمر الذي أبرز نزعة جدّية وقوية من الشعور المعادي لليهود في تلك الجزيرة المنعزلة والتي كانت – إلى ذلك الحين - خالية من اللاسامية.

وقد قام اليهودي شارلز دريفوس رئيس حملة آرثر بلفور الإنتخابية لمجلس النواب عن شرق مانشستر عام 1906 بتقديم وايزمان لبلفور، فإستطاع – بسبب شخصيته الجذّابة -الحصول على دعم بلفور الكامل للحركة الصهيونية، قبل عشر سنوات من تصريحه الشهير. وعندما تقابل الإثنان عام 1917، خلال المفاوضات بخصوص الحصول على وعد بشأن فلسطين، قال وزير الخارجية البريطانية مُداعباً: " ليس هناك من ضرورة لتعريفي بالدكتور وايزمان. فهو الذي حوّلني الى الصهيونية خلال معركة الانتخابات في شرق مانشستر".

إستطاع وايزمان أيضاً الحصول على تأييد رئيس الحكومة البريطانية، ديفيد لويد جورج، والذي كتب يقول: " لقد قابلت الدكتور وايزمان لأول مرة خلال الأيام العصيبة عام 1915، عندما كانت هذه البلاد في غمار الحرب العالمية الاولى، وكنت أحاول جاهداً ايجاد حل لمشكلة نقص العتاد الحربي... ولكنه ]وايزمان[ وبإستعماله لعلمه... قد مكّننا من تجاوز تهديد قاتل لإنتاجنا من مادة الكوردايت. لقد قدّم لهذا البلد خدمة مهمّة وأساسية... وكل ما طلبه هو أن تقوم الحكومة البريطانية بدراسة رجائه من أجل شعبه، حتى يتمكن من قيادة إسرائيل الموجودة في المنفى الى جبل صهيون".

حتى ونستون تشرتشل الذي أصبح وزيراً للمستعمرات بعد الحرب العالمية الأولى، فقد جذبته -كما إدّعى- شخصية وايزمان الى الصهيونية مقارناً بين " الطاقات النارية للدكتور وايزمان، قائد المشروع الصهيوني"، وبين الشيوعيين اليهود " التائهين عن الحقيقة".

ولكن – والأهم من ذلك كله - فإن الحل الصهيوني كان مثالياً لحل مشكلة الهجرة اليهودية المتفاقمة الى بريطانيا وبالتالي، فان تحويل "المشردين اليهود" القادمين من أوروبا الشرقية الى فلسطين، عوضاً عن توجههم لبريطانيا هو خير ما كان يتمناه قادة بريطانيا ، فأصابوا عصفورين بحجر... فهُم أرضوا اليهود ، وحققوا رغبة الشعب البريطاني الذي لم يكن راغباً بإحتضان لاجئين ينتمون الى ديانة وعرقية مختلفة ولا حتى يتكلمون لغتهم!

بعد صدور تصريح بلفور في 2 نوفمبر 1917، أصبح وايزمان زعيم الصهيونية بلا منازع. وفي أوائل آذار 1918 ، تحّرك على رأس وفد صهيوني الى فلسطين وذلك " لدراسة الوضع الحالي للمستعمرات اليهودية في فلسطين، وتنظيم المساعدات والإشراف على تصليح الدمار الذي لحق بالمستعمرات الصهيونية خلال الحرب"، كما أبلغ اللورد بلفور مجلس العموم البريطاني.

وكان البريطانيون - من رئيس الوزراء فما دون - قد أوضحوا لوايزمان أهمية دوره في إزالة الخوف من قلوب الفلسطينيين وبخاصة فيما يتعلق بهدف الصهيونية القاضي ببناء وطن يهودي في فلسطين. وبعد وصوله بأيام ، في أبريل 1918، قام الجنرال ستورز (Storrs) الحاكم العسكري للقدس، بدعوة وايزمان والبعثة الصهيونية وبعض الأعيان الفلسطينيين لحفل عشاء. وقد ألقى وايزمان خطاباً أبلغ فيه الحاضرين بعدم نية الحركة الصهيونية إقامة دولة يهودية، ولكنها فقط تبتغي " خلق الأجواء المادية والمعنوية الملائمة التي يُمكن من خلالها أن يصبح بإمكان من يرغب من شعبنا المجيء إلى هنا..." وأضاف قائلاً بأن الحكم الذاتي علم في غاية التعقيد ولا يستطيع أي شعب أن يتعلمه بيوم واحد، ولذلك أيّد الإنتداب على فلسطين من قبل إحدى الدول الأوروبية. ويبدو أن وايزمان لم يجد من الفلسطينيين من تأثر بشخصيته الجذابة فكتب لزوجته في نفس الليلة قائلاً: " أرى أنه ليس من الضروري أن نشغل أنفسنا بالعرب في الوقت الحاضر. لقد فعلنا ما طُلب منا، لقد شرحنا وجهة نظرنا، وعليهم إما أن يقبلوها أو يرفضوها".

أما ستورز فقد وصف خطاب وايزمان في الحفل بأنه " من وجهة نظر عربية كان عَرضاً مُتطرّفاً لنظرية العودة إلى الأرض"، ومن وجهة نظر خطابية " لم تكن كلمته مؤثرة لا من حيث بلاغتها أو من حيث سلامة نطقها باللغة الإنكليزية ".

وبعد مجموعة أخرى من اللقاءات كتب وايزمان الى بلفور في ايار 1918 قائلاً: " إن العرب، الذين يبدون أذكياء وسريعي البديهة لأول وهلة، يعبدون شيئا واحدا فقط - القوة والنجاح... وكلما حاول الحُكم الإنجليزي أن يكون أكثر عدالة، كلما تعجّرف العرب وتمرّدوا أكثر. إن الوضع الحالي كان سيخلق بالضرورة فلسطين عربية، لو كان في فلسطين شعب حقيقي. ولكن النتيجة لن تكون كذلك، لأن الفلاح متخلف زمنياً أربعة قرون على الأقل، أما الأفندي، فهو غير شريف، غير متعلم، طمّاع وغير وطني بالإضافة الى كونه عديم الإنتاج".

وفي رسالة لعائلته في آب 1918، عبّر وايزمان عن يأسه التام من الوصول الى أي نوع من الاتفاق مع الفلسطينيين مُشبّههم بــ " صخور يهودا... عقبات يجب إزالتها من أجل بناء طريق صعب".

شكلت وقاحة وايزمان والقيادات الصهيونية الأخرى المُطالبة بتهويد فلسطين - في وقت لم يمثّل اليهود فيه أكثر من 10% من السكان - إحراجاً للقيادة العسكرية البريطانية أمام السكان العرب. وقد راقبت القيادات الفلسطينية المقدسية بإهتمام الشرخ الذي بدأ يتعمّق بين القيادة العسكرية البريطانية في القدس وبين البعثة الصهيونية بقيادة حاييم وايزمان وإحتاروا بين ما تصرّح به القيادة السياسية في لندن من تأييد للصهيونية وما تُعبّر عنه القيادة العسكرية في فلسطين من إستياء من تلك الحركة.

إستمر التوتّر بين القيادة العسكرية البريطانية في فلسطين والحركة الصهيونية بقيادة وايزمان وتراشق التقارير. ففي آب 1919 كتب الجنرال واترز- تيلور (Waters-Taylor) أحد كبار الضباط البريطانيين في فلسطين الى وزارة الخارجية، يتهم فيها وايزمان في طريقة تعامله مع الفلسطينين قائلاً : " إنه لمن الصعب أن تفهم طريقة وايزمان في التعامل، فهو إما أنه (أ) لا يعرف أو قد فهم خطأ الشعور الحقيقي في فلسطين، (ب) أو أنه مُقتنع بأن المسلمين والمسيحيين سيقبلون قدرهم دون مقاومة، (جـ) أو أنه يحاول أن يجس قوة الخصم، وهو يعتمد في ذلك على الجيش البريطاني إذا ما ثارت ثائرتهم."

أما الجنرال بولز(Bols) الذي ترأس الإدارة في فلسطين في نهاية 1919 ومطلع عام 1920 فقد تصادم مع البعثة الصهيونية في فلسطين ورفع مذكرة الى الحكومة البريطانية جاء فيها أن البعثة برئاسة وايزمان إتخذت من الإدارة العسكرية منذ البداية موقفاً عدائياً خطيراً... وليس من العدل ما يبتغيه الصهاينة من قوات الاحتلال العسكري [في فلسطين] فهم يطلبون التمييز والمحاباة للجانب اليهودي. وأوصى الجنرال بولز بإلغاء البعثة الصهيونية في فلسطين - التي وصفها بالإستبداد والبلشفية - لصالح السلم والحركة الصهيونية نفسها قائلاً : " أحب أن أؤكد بجلاء أنه اذا ما أخذ بمثل تلك السياسة [الصهيونية] فإنه لمن المؤكد أنها ستسبب في إندلاع ثورة يكون من نتيجتها طرد اليهود من البلاد [فلسطين] اللهم إلا وقفت الدولة المنتدبة على حمايتهم بقوات عسكرية ضخمة ."

وتطول لائحة الضباط الذين اتهمتهم الحركة الصهيونية ومؤيديها ، فهناك الجنرال موني (Moony) أول حاكم عسكري لفلسطين الذي أُتهم بأنه كان معادياً لإقامة الوطن القومي اليهودي فإختفى عن المسرح السياسي في فلسطين. أما العقيد غابريال (Gabriel) المدير المالي للجيش الذي إقترح برنامج للفلاحين للحصول على قروض بفائدة صغيرة لشراء أرضهم وعلى أساس ألا يستفيد منه المهاجرون اليهود ، فإتهمه وايزمان بمعاداة السامية وطالب بألا يعود الى فلسطين ، فكان له ذلك. والعقيد سكوت (Scott) رئيس القضاة الذي خرج ذات يوم من قاعة المحكمة قائلاً لليهود: " لماذا لا تخفّضون صوتكم؟ نحن لسنا في كنيس!" فأعيد الى لندن. أما الرائد هابارد (Hubbard) الذي ّإتهمه وايزمان في مايو 1921 بأنه وقف على شرفة مكتبه في يافا يراقب العرب وهم يهاجمون اليهود مطالباً من رجاله عدم التدخل ، فنُقل الى جبل الخليل.

وردّاً على هذه التهم التي وجهتها له الحركة الصهيونية ، فقد كتب الجنرال ستورز قائلاً : " لقد واجهت الإدارة العسكرية البريطانية [1918-1920] مشكلة لا شبيه لها في التاريخ ، وهي كيف يمكن للفريق (أ) أن "يعيد" أملاك الفريق (ب) للفريق (جـ) وبدون حرمان (ب) ؟"

أما وايزمان – ومن ورائه العقيد مينرتزاغن (Meinertzhagen) الذي كان مؤيداً أعمى للحركة الصهيونية – فقد إستمر في هجومه على الضباط البريطانيين في الادارة العسكرية زاعماً أن أحد أسباب هبة النبي موسى في القدس في ربيع 1920 هو تحريض الجنرال واترز- تايلور - رئيس مكتب الجنرال بولز - للحاج أمين الحسيني على الشغب ، من أجل الإثبات للعالم أن العرب لن يقبلوا بوطن لليهود في فلسطين. ولكن مزاعم وايزمان ومينرتزاغن لم تثبت أبداً . وبينما لم توجّه الحكومة في لندن كلمة واحدة وايزمان لتهجمه كذباً على أحد كبار ضباط الجيش البريطاني العريق ، تم طرد العقيد مينرتزاغين من فلسطين وأعيد إلى لندن.

أما إرنست ريتشموند (Richmond) المسؤول السياسي في حكومة الإنتداب والذي كان معادياً لأسلوب وايزمان في التعامل مع العرب ، فكتب في منتصف العام 1921 رسالة الى أخيه السير هربرت ريتشموند – وكان أدميرالاً لامعاً في البحرية الإنجليزية – يقول فيها: " إن سجلّنا في هذا البلد ليس ساطعاً. ويمكن تلخيصه بإختصار كما يلي : لقد تم استقبالنا من قبل شعب ودود للغاية بسبب العلاقات الطيبة منذ القدم بين العالم العربي وإنجلترة. ولكننا تبنّينا سياسة صهيونية وسمحنا لليهود بالهجرة إلى درجة لا تبررها ظروف البلد... كل هذا شوّش العقل العربي ، المسلم والمسيحي... فدائرة الهجرة هي دائرة يهودية ، والمستشار القانوني هو يهودي وصهيوني ، كما المندوب السامي. الشعب بدأ يعتبر أن الحكومة يهودية ولكنها مموهة بغطاء بريطاني. لن يقبلوا بحكم يهودي. البلاد تغلي. الإنفجارات لابد أن تحصل... ميناء يافا هو مكان وصول اليهود وفي يافا حصل إنفجار كاد أن يتنقل الى كل البلاد."

وفي شهر تموز من العام 1923 كتب الى أخيه الأدميرال مرة أخرى يقول : " إن مستقبلي غير معروف ... أعرف من محادثة أجراها رونالد ستورز مع وزارة المستعمرات أنهم يريدون التخلص مني. يُطلقون علي مُسمّى " دولة داخل الدولة " - وهم لا يحبون " الدولة " التي أُمثّلها - مع أن ستورز قد أوضح لهم بأن هناك " دولة داخل الدولة " وهي البعثة الصهيونية." وبالفعل قدم ريتشموند إستقالته ورحل في أبريل 1924 وتبعه ستورز في 1925. وبذلك خلى الميدان لوايزمان!