الحل المستحيل في فلسطين

حجم الخط

بقلم: محمد خالد الأزعر

 

كثير من المعنيين وأهل الذكر، بما في ذلك بعض كبار المتنفذين على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، باتوا يستبعدون إمكانية مرور حل الدولتين لتسوية الصراع في فلسطين التاريخية.

لهذا اليأس المتنامي مبررات تبدو معقولة. منها بلا حصر المشهد السكاني القائم في الضفة الفلسطينية المحتلة، حيث «الاستماتة الإسرائيلية لابتلاع القدس، والمستعمرات اليهودية والمساحات العسكرية المغلقة والطرق الالتفافية، بما يستحيل معه قيام دولة فلسطينية...». هذا فضلاً عن العوائق الموصولة بالوجود الفلسطيني داخل الدولة الإسرائيلية ذاتها (فلسطينيو 1948)، وما قد ينشأ من تعقيدات عن مطلب تطبيق حق العودة للاجئين الفلسطينيين.

لكن هذه الدفوع لا تكفي لإقناعنا ببديل الدولة الواحدة، لاعتبارات فلسفية نظرية ومحاذير واقعية، أبعد غوراً من قضية التداخل السكاني التي يتوقف عندها دعاة هذا البديل الحالم. اعتبارات تتعلق بضرورة حدوث تغييرات جوهرية مادية ومعنوية في الطبيعة العنصرية لإسرائيل، كدولة نشأت عن مشروع استيطاني إحلالي..

عند نهاية الحرب العالمية الثانية، لم يقنع معسكر دول الحلفاء المنتصر بالهزيمة العسكرية التي أوقعها بدول المحور، وإنما ردف دحر جيوش النظم النازية والفاشية في ميادين القتال، بالسعي حثيثاً إلى استئصال الأسس الفكرية والبنى التحتية الثقافية والتعليمية لهذه النظم، من عقول ووجدانات الشعوب الألمانية والإيطالية واليابانية.

كانت قناعة الحلفاء أن الأبعاد والسلوكيات العدوانية المسلحة لنظم دول المحور، ليست سوى تجليات فوقية ظاهرة لمضامين إيديولوجية عنصرية ضاربة الجذور في مجتمعات تلك الدول. وعليه، كان الاتجاه إلى تغيير الأطر الدستورية والقانونية والمناهج التربوية والتعليمية وأنماط الرسائل الإعلامية والتصورات الثقافية، وشطب كل ما من شأنه بث القيم الحاثة على التمييز في تلك المجتمعات.

لو أن الداعين لتسوية «الصراع الإسرائيلي الفلسطيني» على أساس الدولة الواحدة، الدولة ثنائية القومية أو دولة كل مواطنيها، أخذوا هذه الخبرة بعين الاعتبار، لما داعب هذا الحل خيالهم.. ذلك لأن مرور حل كهذا يستوجب توفر شرطين: هزيمة الصهيونية المسلحة أو نزع سلاحها أولاً، ثم حدوث تحولات جوهرية في البنية الفكرية الثقافية، تلغي ما لدى المستوطنين الصهاينة من مكنونات استعلائية تجاه الفلسطينيين تالياً.

لم يعرف عالمنا تجربة للنظم العنصرية أو للاستعمار الاستيطاني، آبت إلى الاعتراف بالمساواة بين البشر، أو بحقوق متساوية للمستوطنين مع المجتمع الأصيل، من تلقاء نفسها أو نتيجة لمراجعات ذاتية. التجارب تقول إنه لكي يحدث هذا الاعتراف، فلابد من إيقاع الهزيمة المادية والمعنوية بهذه النظم. هذا ما جرى مع غزوة الفرنجة قديماً. وقد حدث الشيء ذاته مع النازية والفاشية، ومع المستوطنين الأوروبيين في الجزائر، ومع نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا، في القرن الماضي.

لا يقوم حل الدولة الواحدة بين جماعة متعجرفة متعالية مستكبرة مسلحة حتى الأسنان؛ تدعي أنها فوق كل قوانين الخليقة لأنها شعب مختار من الخالق، وبين جماعة أخرى مسالمة تخضع لقوانين السماء والأرض. وقد فشل هذا الحل في كثير من الدول ذات الجماعات المتباينة إثنياً أو ثقافياً ولغوياً أو دينياً أو حتى طائفياً. في بعض النماذج، مثل الاتحاد السوفييتي وتشيكوسلوفاكيا، جرى الانفصال بالتوافق والتي هي أحسن، فيما شهدت نماذج أخرى حروباً دامية قبل أن تذهب كل جماعة في طريق، كما حدث في يوغسلافيا.

نطرح هذه العبر وفي الخاطر أن مفهوم الدولة الواحدة في فلسطين ليس من منشئات أو مبتكرات القائلين به، من أية جهة أو تيار فكري أو سياسي، في أيامنا هذه. فقد كان أول الحلول التي عض عليها آباء الكفاح الوطني الفلسطيني بالنواجذ، حين تبلورت لديهم باكورة الوعي بالمشروع الصهيوني الاستيطاني في عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته. وكان ذلك العرض مقبولاً وجائزاً ومرشحاً للنجاح في ذلك الحين؛ قبل أن يطرأ سيل المهاجرين اليهود على فلسطين تحت شعارات المشروع الصهيوني الاستيطاني، بروايته التاريخية المغشوشة وسلوكياته العنصرية الفجة.

دخول العامل الصهيوني الخارجي، بحمولته الفكرية والسياسية والسكانية والعسكرية، وأنماط تحالفاته ولاسيما مع المستعمر البريطاني، كان نذير شؤم على فلسطين، وهو الذي أفشل الحل الديمقراطي الذي طرحه الفلسطينيون. وعلى رغم الجروح التي تسبب لهم فيها هذا العامل، فقد ظل بعض الفلسطينيين عاكفين على هذا الحل. ووقت أن كان الصهاينة ومحازبوهم يهنئون أنفسهم بحل الدولتين، الذي قررته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947، كان الفلسطينيون يتحسرون لزوال حلم العيش في دولة فلسطينية لكل مواطنيها الأقحاح.

عن "البيان" الإماراتية