دراما المأزق الفلسطيني والانتخابات

حجم الخط

بقلم/ د. محمد الهندي

 

منذ أكثر من ربع قرن يعاني البيت الفلسطيني من الانقسام السياسي الذي زرعت بذوره عند توقيع اتفاق أوسلو حيث تخلى المفاوض الفلسطيني عن 80 % من أرض فلسطين وارتهن العشرين بالمئة المتبقية لمفاوضات تخضع لموازين القوة المختلة لصالح العدو بشكل لم يسبق له مثيل، وأدان كذلك المقاومة الفلسطينية واعتبرها إرهابا، وأنشأ سلطة فلسطينية اعتبرت شريكا أمنيا لإسرائيل في ملاحقة قوى المقاومة الفلسطينية.

ومنذ ذلك الوقت يتعمق هذا الافتراق بين نهجين ومسارين وفريقين، مسار التفاوض مع العدو والشراكة معه ومسار المقاومة، وصولا الى الانقسام الفلسطيني الحاد بين سلطة فتح في رام الله وسلطة حماس في غزة.

فالانقسام ليس على تحسين إدارة ونزاهة مؤسسات سلطة ركبت وفق اتفاق أوسلو ومقيدة بالتزامات سياسية وأمنية واقتصادية (اتفاق باريس)، بل حدث الانقسام على خلفية هذا الاتفاق وتركيب ووظيفة هذه السلطة.

بعد ربع قرن ومع خلق إسرائيل لوقائع جديدة على الأرض من استيطان وتهويد ومصادرة أراضي أفرغت اتفاق أوسلو من أي محتوى سياسي وقضت على حلم المفاوض الفلسطيني بدولة في غزة والضفة - التي تحولت الى دولة للمستوطنين اليهود - وحافظت فقط على الالتزام الأمني لمؤسسات سلطة تعمل في خدمة أمن العدو .

ومع تعقيدات الوضع الإقليمي والهرولة العربية الرسمية لبناء شراكة سياسية وأمنية مع العدو تقفز عن حل القضية الفلسطينية ، حتى في حدودها الدنيا وفق المبادرة العربية المعلنة في بيروت عام 2002. فإن السؤال الكبير أمام الشعب الفلسطيني وفصائله وقواه المختلفة: ما هو السبيل لإستعادة وحدة الشعب الفلسطيني وحيويته للصمود أمام هذا الاقتلاع والتخلي والتصدي لهذه المؤامرات ؟

بعد عقد ونصف من الحوار الفلسطيني الداخلي والاتفاقات التي لم ينفذ منها شيء منذ اتفاق القاهرة عام 2005 , أعلن رئيس السلطة الفلسطينية في رام الله عن إجراء انتخابات برلمانية تتلوها رئاسية كسبيل لاستعادة الوحدة الفلسطينية وحل مشاكل الشعب الفلسطيني وتعزيز صموده لمواجهة صفقة القرن !!

وأمام هذا الإعلان الذي تجاوبت معه حركة حماس وفصائل أخرى تبرز عدة أسئلة أهمها :

- هل انتخابات لمؤسسات سلطة أوسلو التي كانت سبب الانقسام الفلسطيني سينهي هذا الانقسام ويستعيد الوحدة ؟ وكيف سينتهي الصراع بين نهجي المقاومة والشراكة مع العدو أو على الأقل بين السلطة في رام الله وحماس بعد الانتخابات ؟

- ما هو هدف الانتخابات ؟ هل تجديد شرعية مؤسسات سلطة أوسلو يهدف الى حل مشاكل الشعب الفلسطيني وتعزيز صموده لتجاوز هذه الاتفاقية وآثارها السلبية من مصادرة أراضي الضفة وتهويد القدس وحصار غزة وإهمال اللاجئين أم هناك أهداف أخرى ؟

في الإجابة عن التساؤل الأول لا مفر من تسجيل أن الانقسام بين فتح وحماس وبالتالي بين غزة وسلطة رام الله جاء على خلفية انتخابات 2006 حيث فازت حماس مخالفة بذلك كل استطلاعات الرأي وكل التوقعات الإسرائيلية الأمريكية والفلسطينية التي هدفت إلى تمرير حل مرحلي طويل ألأمد مع تبادل أراضي يتم تثبيته كحل نهائي لاحقا ومحاولة إدخال المقاومة إلى مظلة أوسلو من باب الانتخابات .

لم تسلم إسرائيل ولا السلطة الفلسطينية بتلك النتائج حيث قامت إسرائيل باعتقالات متكررة لأعضاء المجلس التشريعي من حماس وعطلت عمليا أعمال المجلس فيما عطلت سلطة فتح من جانبها عمل حكومة حماس وصولا إلى الاحتراب والانقسام الذي يتعمق مع الوقت . والسؤال هنا هل سيتم احترام نتائج الانتخابات هذه المرة , أم ستكون هذه الانتخابات مدخلا لإحتراب جديد وصراع آخر أكثر تعقيدا !؟ , والسؤال الآخر هل يمكن إجراء انتخابات حرة ونزيهة تحت حراب الاحتلال وفي ظل الانقسام ؟ والانتخابات لا تجري إلا بموافقة إسرائيل (على الأقل في موضوع انتخابات القدس) .

في الانتخابات السابقة 2006 كانت فتح تسيطر في الضفة وغزة , هذه المرة هناك سلطتان تتنازعان السيطرة , فإذا فازت حماس هل ستقبل فتح إمتداد سلطة حماس إلى الضفة ؟ وهل ستقبل إسرائيل سيطرة حركة حماس - المقاومة على الضفة - في ظل هذا الصراع والاستقطاب الإقليمي الحاد ؟ , أم ستكون انتخابات محسومة النتائج تفرض نتائجها بالقوة أو بالتزوير .

وفي حال فوز فتح هل ستسلم حماس السلطة في غزة وما هو مصير سلاح المقاومة في ظل شعار سلطة واحدة وسلاح واحد ؟ وهل يجوز للفائز في الانتخابات أن يأخذ كل الوضع الفلسطيني إلى خياراته بمعنى إذا فازت فتح يتم إلغاء خيار المقاومة وإذا فازت حماس يتم إلغاء خيار التفاوض ؟

في إجابة للسؤال الثاني نستحضر معاناة الشعب ا

لفلسطيني من حصار غزة ومصادرة الأراضي والاستيطان في الضفة وتهويد القدس وتجفيف المؤسسات الدولية التي ترعى اللاجئين في الخارج واقتصاد ذيلي لاقتصاد العدو . هذه هي أهم المشاكل التي نعانيها على مدار الساعة . هل انتخابات لمؤسسات السلطة تكفل حلا لهذه المشاكل ؟

السلطة وعلى لسان رئيسها دعت إلى الانسحاب من هذا الاتفاق وقرارات اللجنة التنفيذية للمنظمة و اللجنة المركزية لحركة فتح أكدت على ذلك وطالبت بوقف ما يطلق عليه التنسيق الأمني مع العدو وارتفعت أصوات مسؤولين كبار في السلطة تطالب بالانسحاب من أوسلو وإعلان فلسطين دولة تحت الاحتلال؛ والتساؤل عن جدوى إستمرار السلطة في الوقت الذي يستمر فيه الاستيطان ومصادرة الأرض . وحكومة اشتيه أعلنت أنها تعمل على الانفكاك من اتفاق باريس الاقتصادي الذي يحول دون بناء اقتصاد وطني مستقل .

بعد كل هذه المواقف من السلطة هل يعقل أن اتفاق أوسلو لا زال يصلح ليحكم مسيرتنا السياسية ويتطلب تجديد شرعية مؤسساته ؟ أم أن تجديد هذه الشرعيات مطلوب اليوم لتمرير صفقات مشبوهة كما كان الحال عام 2006 ؟.

لكل ما سبق فإن الحديث عن الانتخابات لا ينبغي أن يتعلق بالمستوى الفني الذي يتناول تشكيل اللجنة الانتخابية , ومرجعيتها , والقانون الانتخابي ... الخ .

بل هو أساسا يتعلق بالبعد السياسي للانتخابات , ماهو الهدف منها , وما هي طبيعة ووظيفة الهيئة المنتخبة ؟ وهذا بالتالي يتطلب الاتفاق على طبيعة المرحلة وترتيب أولوياتها . هل هي مرحلة تحرر وطني تحتاج إلى مؤسسة تقاوم النفوذ والعدوان الصهيوني وترعى مصالح الشعب الفلسطيني وتعزز صموده وتنظم قواه لمواجهة هذا العدوان ؟ أو هي مرحلة بناء الدولة ومؤسساتها تحتاج هيئة لها خبرة في إدارة مؤسسات الدولة القائمة على الأرض وليس في الواقع الافتراضي _واقع الأمنيات .

نحن في حركة الجهاد الإسلامي نرى أن المرحلة مازالت مرحلة تحرر وطني تحتاج الى توافق على برنامج الحد الأدنى , وبناء مرجعية وطنية تدير الصراع مع العدو في المرحلة الراهنة وتشرف على أدوات ووسائل هذا النضال , وتتشكل هذه المرجعية عبر انتخابات مجلس وطني فلسطيني وفق اتفاق بيروت 2017 (لأن مبدأ الانتخابات لا خلاف عليه) . أما إدارة شؤون الضفة وغزة فيتم التوافق على هيئة وطنية وظيفتها فقط إدارة شؤون سكان قطاع غزة والضفة الغربية ورعاية مصالحهم تنبثق هذه الهيئة عن منظمة التحرير الفلسطينية وممكن أن تأتي عبر الانتخابات .

والمعبر لكل ذلك هو حوار وطني شامل تشارك فيه جميع القوى و الفصائل والفعاليات الفلسطينية بهدف التوصل لتوافق وطني حول برنامج سياسي مشترك يمثل الحد الأدنى , ومرجعية وطنية تشرف على تنفيذه . أو على أقل تقدير بناء مرجعية وطنية تحت سقفها تتفاعل البرامج المختلفة وتتكامل .

أما لقاءا وطنيا بعد اعلان مرسوم الانتخابات فهذا يعني إصرارا على استمرار الدوران في حلقة مفرغة اسمها تجديد شرعيات مؤسسات أوسلو واستمرار الارتهان لإرادة العدو وسياسته والشراكة الأمنية معه .

إن المدخل لإنهاء الانقسام وتوحيد المؤسسات وتكامل الجهود هو البدء بحوار وطني يتجاوز أوسلو ويبني المؤسسات الوطنية التي تعالج آثاره . وهذا هو المدخل أيضا لمن يريد اجراء اتخابات حرة نزيهة تحترم نتائجها ولمن أراد حكومة وحدة وطنية تجسد الشراكة الوطنية .