عن العنف الأسري

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

تحقيق استقصائي مصور، أعده الصحافي «يوسف حسان»، يكشف النقاب عن قصة حقيقية، تكاد لا تُصدق من شدة هولها.. تجري أحداثها في رفح.. طفل في العاشرة من عمره، اسمه موسى عبد الله موافي، يتعرض لحالات تعذيب يومية، تعجز عنها أشد الأنظمة البوليسية قمعاً، والجلاد هنا والده وزوجته.
على لسان شقيقيه، وعمه، وجيرانه، وأطفال من عمره تتكشف تفاصيل فظيعة، تدل على مدى الانحدار والتوحش الذي قد يصله بعض البشر.
توفيت والدة الطفل في وقت سابق، فأمعن الأب وزوجته في تعذيبه.. يتركانه بلا طعام، ولا ملابس، يجبرانه على النوم في «خُم» الدجاج، بلا فراش ولا غطاء.. أخرجاه من المدرسة، ولا يسمحان له بمغادرة فناء البيت، إلا لإلقاء النفايات.
يقول الطفل: لا يقدمان لي أي وجبة، فأضطر لأكل ما أجده في حاوية القمامة، وأحياناً يرمي لي بعض الأطفال كيساً فيه خبز وحبات بندورة فآكلها.. لم يشتر لي والدي أي قطعة ملابس، فألبس ما أجده من ملابس مهترئة في الحاوية.. يتفننان في تعذيبي، جَلد بالكوابل، تسييح بلاستيك على الفخذ، تسخين السكين على النار ثم كيّ أنحاء متفرقة من جسدي، ضرب بلا رحمة..
يقول عمه: إن والد الطفل ربطه في جذع شجرة، ونزع عنه ملابسه في جو شديد البرودة، ثم انهال عليه ضرباً، مضيفاً: يضربه بعصا خشبية، وفي إحدى المرات ضربه بعنف على رأسه، ما أفقده البصر في عينه اليمنى.
ويقول الجيران: إنهم شاهدوا الوالد يحمل الطفل ويضعه في برميل مياه آسنة في فترة «الأربعينية»، أي في عز البرد، ثم تركه يرتجف.. وهذه العملية تكررت مرات عديدة.
الطفل مصاب بالسكري، ومن شدة التعذيب صار يتبول لا إرادياً، وكلما تبول، تعرض لوجبة تعذيب..
المفاجأة الثانية في القصة المروعة، أنّ لموسى شقيقة في العشرينيات، مسجونة في البيت منذ أكثر من عشر سنوات، لا يسمحان لها بالخروج نهائياً، وما دل على وجودها صراخها وعويلها من شدة الضرب من حين لآخر..
قال عمّها: إن والد الفتاة وزوجته ينكلان بها، ولا يسمحان لها بفتح الثلاجة، يتركانها في الجوع، وحتى شُرب الماء تُحاسب عليه، بل إنهما يمنعانها من الاستحمام، مضيفاً: رفض والدها تزويجها، وقال لها حرفياً: أنت عندي مجرد خدامة.
يقول الجيران: إنهم شاهدوا والدها يلحق بها وهي تركض خائفة في الشارع، ويشتمها بأقذع الألفاظ، لأنها تناولت «كيس شيبس».
ويقول شقيقها: إن أمنية حياته أن يقابل أخته، حيث لا يسمح الأب للشقيقين الأكبر من موسى (صالح وسليم) بدخول البيت، ويبدو أنهما هربا من شدة الظلم، بعد أن كبرا.. حيث يقولان: إنهما كانا يتعرضا للضرب والتعذيب مثلما يتعرض موسى الآن وإنّ والدهما يخصص غرفة صغيرة على سطح المنزل لحفلات التعذيب، ويستخدمها كزنزانة انفرادية، يحبس فيها أي ولد من أولاده لفترة تصل إلى شهر، وهذه الغرفة لا نافذة فيها، ولا حتى فرشة للنوم، وجدرانها مغطاة بالدماء.
يقول الشقيقان: إنهما تقدما بشكوى إلى الشرطة، وإلى النائب العام، وإلى مركز حقوق الإنسان في رفح، وإلى جهات أخرى.. ولكن دون جدوى.. حيث لم يتحرك أحد.
القصة ليست حدثاً فجائياً، أو أنها وقعت لمرة واحدة.. القصة تجري فصولها الفظيعة منذ سنوات طويلة، وما زالت مستمرة حتى الآن.. تجري في حي مكتظ، بالجيران والأقارب.. شقيق الطفل عاجز، فهو بلا مأوى، وينام في خيمة.. ولكن، ماذا بشأن أهل الحي؟! أين الجيران، والمخاتير، والفصائل، والجمعيات الأهلية، والمنظمات الحقوقية؟ هل يعقل أنّ أحداً لم يسمع بالقصة؟ لماذا لم يتحرك أحد؟ على الأقل إعلامياً؟
أين «حماس» التي تحكم غزة؟ هل نصدق أنها التي تسيطر على كل أجزاء القطاع، ولديها القدرة على جلب أي ناشط إذا نشر «بوست» على فيسبوك، هل نصدق أنها لا تعلم؟!... «حماس» التي نظمت «الحملة الأخلاقية» لفرض الزي الشرعي، والتي تفتش شرطتها عن عقد الزواج إذا شاهدت أي شاب وفتاة يمشيان في الشارع، واستفزتها فرقة «صول» الغنائية.. هل غفلت عن هذه القصة أم أنها ليست في دائرة اهتمامها؟ 
حتى لا يقول البعض إن هذا تصيد أخطاء، وإسقاط سياسي، واستغلال قصة مأساوية لأغراض حزبية.. أؤكد لكم أنّ مثل قصة «موسى» في رفح، عشرات القصص التي لا تقل مأساوية حدثت في الضفة الغربية، في الخليل، وقلقيلية، ورام الله وغيرها، وسط تقصير فاضح وإهمال غير مبرر من قبل السلطة، تتحمل مسؤولياتها الحكومة، ووزارة الداخلية، والشؤون الاجتماعية، والأجهزة الأمنية، وتنظيم «فتح».. كلهم مقصرون، ولديهم أولويات قبل كرامة الإنسان، وحقوق الطفل، وحقوق المرأة.
وأزيدكم من الشعر بيتاً، كنتُ قد نشرت في وقت سابق مقالاً بعنوان «نساء سجينات»، تناولت فيه أحداثاً مروعة ورهيبة، وقصصاً حقيقية جرت في مصر، والسعودية، والمغرب، وسورية وغيرها.. قصص لنساء مسجونات في ظروف بالغة القسوة، ليس لدى الدولة، بل لدى أسرهن، ويتعرضن لتعذيب وحشي على أيدي آبائهن وأشقائهن.. ما يعني أن المشكلة لا تقتصر على منطقة دون أخرى.. ولا تختص بمجتمع محدد.
والمشكلة لا تخص الجهات الرسمية المختصة فحسب، بل إن المشكلة الأساسية في الأنا المتضخمة لدى الرجل «الذكر»، وفي منظومة الأفكار المتخلفة، والسلطة الذكورية، والنظرة الدونية للمرأة، وعدم الاعتراف بحقوق الطفل، والجهل في أساليب التربية.. وكل هذا التخلف مدعوم بمنظومة قوانين رجعية ومتخلفة، وبتواطؤ اجتماعي قبَلي، وبسلبية مفرطة، سلبية الأفراد تجاه كل ما يدور خارج منزلهم، وخارج نطاقهم الخاص جداً.
في الأردن، قبل نحو شهر، تعرضت سيدة لاعتداء وحشي من قبل زوجها، حيث فقأ عينيها، ما أفقدها البصر كلياً.. ولا شك أن هنالك ما لا حصر له من القصص المروعة في كل مجتمعاتنا التي تتغنى بالفضيلة، والتكافل، والأخلاق.. آلاف حالات العنف الأسري يُبلّغ عنها سنوياً، ومثلها أضعاف مضاعفة لحالات غير مبلّغ عنها، فالمخفي أعظم، إذ إن كثيراً من النساء يخشين التبليغ، لاعتبارات اجتماعية، أو خوفاً من العائلة، أو عدم ثقة بالجهات المسؤولة.. فضلاً عن حالات الاعتداء على الأطفال.. وهؤلاء أيضاً لا يعرفون كيف يبلّغون، ونحن، حتى لو رأينا أباً يعنّف ابنه بكل قسوة، غالباً ما نشيح بوجهنا، ولا نفعل شيئاً.. والبعض يعتبره شيئاً طبيعياً.
القضية خطيرة، وجدية، وتحتاج موقفاً جماعياً.