ماذا فعلت بنا ثورة الزعران والعملاء؟

حجم الخط

بقلم أنطوان الخوري طوق

 

 "كنا قابعين في مربّعاتنا الحزبية والمذهبية والمناطقية، قانعين بما قسمته لنا الحرب الأهلية من جلادين وقادة وقياصرة صغار وآلهة، نفتّش عن أسباب تخفيفيّة لشبقهم السلطوي والمالي، لخياراتهم ورهاناتهم وتواريخهم الشخصية وفشلهم ولعبهم الوقح بأعمارنا.

كنا نمضي نهاراتنا وليالينا ونحن نصغي إلى ترهاتهم وثرثراتهم الخشبية وتهديداتهم بلقمتنا وسلامتنا. كنا نصغي إليهم وهم يصرخون في وجوهنا ويضعون أصابعهم في أعيننا.

كنا نتفرّج على استعراضاتهم وأعراس أولادهم الخيالية ونتعثر بمواكبهم، كنا شهود زور على جشعهم وصفقاتهم وعمولاتهم ومصارفهم وتضخّم ثرواتهم.

كنا الخصيان والغلمان والجواري والمهرّجين وشعراء المديح التكسبي في بلاطاتهم وأنفاراً في جيوشهم الإلكترونية، وصدى هجيناً لتقلّباتهم وصراعاتهم.

كنا رهائن العواصم المحبّبة إلى قلوبهم من واشنطن إلى موسكو ومن طهران إلى دمشق والرياض، واليوم جاء من يريدنا في بكين.

كنا وقود كل الحروب والأناشيد الحماسية، سجناء التبعية في الأقفاص التي وضعونا فيها وقد ظننا بأننا لن نخرج منها إلى الأبد. لقد أقنعونا بأننا مثقوبو الذاكرة، أغبياء ساذجون وحالمون، قدرنا أن نبقى شعوباً في شعب واحد، وبأنهم هم المدافعون عن حققوقنا وأرضنا وسيادتنا وحدودنا، وهم المسؤولون عنا فتبعناهم فأخذوا منا حناجرنا وأقلامنا وسواعدنا وأولادنا، فكانوا يفكرون عنا ويقررون، وفي كل موسم إنتخابي كنا نعيدهم هم أنفسهم وكلاء عنا، نرفع صورهم وراياتهم فوق سطوحنا وفي شوارعنا، نجوع ونعرى ونفتقر ونمرض ونضطهد ونهاجر وهم في صورهم المرفوعة بليدون ينظرون في الفراغ إلى اللا شيء.

أقنعونا بأننا رعايا وزبائن ولسنا مواطنين فوقفوا عائقاً بيننا وبين لقمة عيشنا وعملنا وصحّتنا ومدرستنا ومحكمتنا، وبأنه لا حياة لنا من دون شفاعتهم. لقد صادروا نقاباتنا وجمعياتنا ومؤسساتنا، فتقاسموها فيما بينهم حصصاً وكنا نردّد ببغائياً شعاراتهم فوجدنا أنفسنا أسرى ماضويّتهم ومتاريسهم.

فماذا فعلت بنا وبهم أيتها الثورة؟ من اين جئت وكيف وصلت وإلى أين تأخذيننا؟

أيتها الشقية الوقحة، يا عاشقة الحرية، كيف بدّلت طقس لبنان من خريف إلى ربيع في بضعة أيام؟ كيف استطعت أن تمسحي كل هذا الحزن وكل هذا العجز عن وجوه البشر، من أين جاؤوا وأين كانوا وكيف تدفّقوا أنهار خير في الساحات والشوارع؟ كيف حوّلت مراثينا إلى أناشيد فرح ورجاء وأنت تعيدين لنا كرامتنا بعد تماديهم في استغبائنا وإذلالنا واحتقارنا؟

كيف أخرجت هذا الكمّ من القادة والزعامات من قلوبنا وعقولنا ومن حساباتنا؟ وكيف جعلتهم خلال شهر من الزمن وجوهاً من ماض سحيق؟

إلى أين انكفأت تلك الوجوه وكيف جعلتها صفراء قديمة وكأنها صفحاتٌ قد انتزعت من كتاب عتيق؟

من أين جئت بكلّ هذه الوجوه الشابة الجديدة والأليفة، وجوه الأطفال والنساء والأمّهات النابضة بالدفء والحياة والوعود؟ ماذا فعلت بنا حتى بتنا لا نطيق تلك اللغة القديمة الباردة والمتلحّفة بالكذب والرياء؟ وكيف أبدعت هذه اللغة الجديدة الحارة والطازجة، الحديثة والواعدة؟ من أين جئت بهذا الوعي والعمق والنضج والصدق والزخم، بهذه العفوية والصراحة، بهذا التجرؤ على المحرّمات والمقّدسات والأصنام السياسية والحزبية؟  من أين جئت بكلّ هذا الفيض من قيم النزاهة والمواطنة وسيادة القانون، بهذا الكمّ من الهواء النقي وسط هذا التلوّث؟

لقد سبقنا شبابك وشاباتك الآتين من زمن من غير زمننا ومن عالم من غير عالمنا، وها نحن نركض لاهثين حتى لا نصبح فاقدي الصلاحية. نتباهى بتحرير الأرض عن حقّ ولكن ما نفع تحرير الأرض إذا استُتبع واستُعبد الإنسان؟

إلى أين انكفأت تلك الرايات التي شرذمت العقول والمشاعر، وكيف جعلتها محرجةً ومربكةً تحاذر الإقتراب من الجموع المحتشدة في الساحات، وكيف جعلت العلم اللبناني الجامع مزهوّاً بألوانه وولادته الجديدة؟ من أين جئت بكلّ هذا الانتماء وكلّ هذا الحبّ؟

من أين جاؤوا وماذا قالوا للمدن والقرى والساحات لتتحدّث بلغة واحدة وتهجس بنفس الهموم والتطلّعات؟ فكيف غدا المستحيل أمراً ممكناً، ما هذا السحر العجيب الذي جعلنا نتعرّى من حزبيّاتنا وانقساماتنا وطوائفنا وكشف عورات الذين انتدبوا أنفسهم لتدبير شؤوننا؟

كيف أقنعت من في الداخل والخارج بأن الناس هم الذين يصنعون السياسة وليست الأحزاب هي التي تصنع الناس؟ أخبرينا كيف أعدت تدوير كل الأحزاب ونحن عاجزون عن تدوير النفايات؟ لقد ضربت بسياطك تجار الهيكل وفضحت مغاور اللصوص، ولم يعد بإمكان أحد أن يتجاهلك، فأخذت مكانك في الرقابة والمساءلة والمحاسبة وفي الاعتراض والقبول؟

من أين لك كل هذه الشجاعة وأنت تجابهين الضباع وحيتان المال، وتقاومين الإغراء والترهيب، وتتجدّدين كل يوم رغم المخاطر والأفخاخ؟

من أين لك هذه القوة فجعلت المسؤولين يتسلّلون ويختبئون خلف الأسلاك الشائكة؟ كيف استطعت في هذه الفترة القصيرة أن تُخرجي كل الغضب وكل النقمة من الغرف المغلقة إلى الهواء الطلق في الشوارع والساحات وعلى الشاشات؟

لقد اتهموك بقلّة التهذيب والعمالة والارتزاق واستدعوا كل خارج لإجهاضك وشيطنتك وهم المقيمون في العواصم والسفارات، كما سلّطوا الأضواء على بعض هتافات المنتفضين لكرامتهم من ثوّارك، بينما من اتّهمك لم يخجل يوماً من نهب وتجويع وإفقار أهلك، ولم يخجل يوماً من التمادي في قتل النخب من أحرارك وثوارك. يا لأدبهم ويا لرهافة حسّهم! اتّهموك بقلّة الأدب وأنت الشريفة فلم تشهد حشود ساحاتك سرقةً أو تحرّشاً أو تخريباً أو تمييزاً جنسيّاً أو دينيّاً. أيتها الراقية في سلميّتك وتنوّعك، فأنت وحدك أعدت رسم وجه الوطن الجميل وألهمت المقهورين وأعدت ترميم سمعة لبنان الذي شوّهته المطامر وحرائق الغابات والصفقات.

ويسألونك إلى أين، لست ملزمة بالإجابة، فعليهم هم المتربّعون على العروش والمتمسّكون بالكراسي أن يجيبوا عن هذا السؤال دون أن ينزلقوا إلى ماضيهم هرباَ من الإجابة عن الحاضر.

يطالبونك بقيادة ومطالب موحّدة بعد ما فشلوا في محاولة تبنّيك واغتيالك، فهل هم موحّدون؟ وهل هم صمّ لا يسمعون؟ وهل هم عميان لا يبصرون؟ ما زالوا يكابرون ويحاولون تحميلك مخاطر الانهيار وهم الذين قادوا البلاد إلى الهاوية. ويهدّدونك بالحرب الأهلية وهم يحتفظون بها في خزائنهم وأنت التي طويت صفاحاتها الأليمة وأنهيت استثمارها.

لقد جعلت اللبنانيين يكتشفون أنفسهم وجمال الوحدة في التعدّد والتنوع فتلونا فعل الندامة على كل قول أو فعل أو إهمال قبل 17 تشرين، ونحن نودّع زمن 8 و14، فهذا زمنك أنت، زمن الثورة فشكراً لكم أيها الثوار، فكم بدا استقلالهم موحشاً وحزيناً، وكم بدا استقلالكم شاباً فرحاً وهو في سن السادسة والسبعين."

*عن موقع "ليبانون ديبايت"