1990 - 1994 سنوات الجمر والحسم في جنوب إفريقيا

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

تحل هذه الأيام ذكرى وفاة الماديبا "نيلسون مانديلا"، الزعيم الذي حرر شعبه وقاده إلى الحرية، والذي أسس جمهورية جنوب إفريقيا الديمقراطية، بعد أكثر من ثلاثة قرون عاشت خلالها تحت نير نظام الفصل العنصري.
في سنوات كفاحه السري، تعلم المناضل العنيد من "زهرة الربيع السوداء" قدرتها على التخفي والمراوغة، وفي الزنازين الباردة والمعتمة قرأ على جدرانها الكالحة لغة الأرض، وهناك تعلم كيف يصارع "طواحين القدر"، تلك التي تدور أسرع من زمن زنزانته الذي يكاد أن يتوقف. من قبيلته "التمبو" ورث شجاعة المحارب، والنَّسب الملكي.. ولم تخطئ عرّافة القرية حين لمحت في مشاغباته سمات الزعيم الذي سيقود بلاده إلى بر الأمان، فقالت له: ستحتاجك قارتنا السمراء، وستتكئ عليك، مثلما تتكئ عليها قارات الأرض الخمس. كانت بداياته حالمة كأحلام الريف البسيطة، ومن هناك انطلق في دربه الطويل، والصعب.
في أواخر الثمانينيات، كانت صور مانديلا في كل مكان، تتصدر الصفحات الأولى لكبريات الصحف، على لوحات الإعلانات، وعلى قمصان الرياضيين، يحملها المتظاهرون في مسيراتهم الحاشدة مطالبة بالإفراج عنه.. فقررت حكومة الفصل العنصري نقله إلى منزل مريح، تحت الإقامة الجبرية في آخر سنتين من سنوات اعتقاله الـ27.
أُطلق سراحه في شباط 1990، وفاز بأول انتخابات حرة في نيسان 1994. لم تكن تلك السنوات الأربع سهلة بالمرة، فقد واجهته خلالها تحديات كبيرة، كل تحدٍ كان كافياً لإفشال كل شيء، كان يسير في حقول ألغام، كادت أن تنفجر أكثر من مرة، لتنهي حلمه.. تعرض لانتقادات شديدة، من خصومه، ومن حزبه، ومن شعبه، وكلما اتخذ قراراً صعباً، نصحه رفاقه بالتراجع عنه، قائلين له: ذلك القرار لن يعجب الشعب، وربما يتمرد.. فكان يجيبهم: نحن القيادة، وواجبنا اتخاذ القرارات الصحيحة، حتى لو بدت للكثيرين خاطئة.. كان لديه بعد نظر.. واضعاً مصلحة بلاده في المقدمة، ولكن من منظور إنساني ثوري.
الانتقاد الأول كان من رفاقه، اعترضوا على قبوله مبدأ التفاوض مع "العدو"، ثم اعترضوا على تفرده بالمفاوضات.. وبعدما اشتدت الأزمة، وعمّت البلاد حالة من الفوضى والرعب، والمذابح المروعة، انتقدته غالبية الشعب لإصراره على الاستمرار في المفاوضات، وطالبوه بالعودة للكفاح المسلح.. بيد أنه ظل متمسكاً بمبادئه السلمية، وخيار التفاوض.
حتى نفهم طبيعة تلك التحديات، لنشاهد الصورة من منظور أوسع:
كانت رياح التغيير قد بدأت تهب من شرق أوروبا، وكان واضحاً أنها ستطال بنية النظام الدولي، وكانت حملة المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) قد بدأت تؤتي ثمارها، حيث أخذت دول العالم تشدد انتقاداتها ضد حكومة الفصل العنصري، وتتخذ بحقها عقوبات، وتفرض عليها مقاطعة اقتصادية، حتى حلفائها كانوا يضغطون عليها لإنهاء سياسة الفصل العنصري.. وكانت الدولة أمام أزمة اقتصادية خانقة، بسبب العقوبات وسحب الاستثمارات، والشعب في حالة هياج، والبلاد على شفير حرب أهلية مدمرة.. فأدرك الرئيس الجديد دي كليرك أنه لا بد أن يتخذ قرارات مصيرية.
كان دي كليرك أنجليكانيا، متديناً، محافظاً، تكمن في أعماقه نزعة عنصرية، وإيمان بتفوق العرق الأبيض، وهو على يقين بأن الرب أرسله لإنقاذ شعبه.. لكنه كان براغماتياً.. وتحت الضغوط، قرر رفع الحظر عن الأحزاب الإفريقية المعارضة، والإفراج عن المعتقلين السياسيين، وكان بصدد اتخاذ إجراءات إصلاحية، تحسن وضع السود قليلاً.. على أمل أن يكون ذلك كافياً لامتصاص نقمة الشعب، والتحرر من الضغوطات الدولية.
أما مانديلا فكان يريد حلاً جذرياً وتاريخياً..
ومع تأزم الأوضاع، أدرك الحزب الحاكم أن منجزات ثلاثة قرون ستضيع، وأنهم سيخسرون البلاد، وأن السود سيتولون السلطة، وسينتقمون منهم.. لذا، بدؤوا بوضع العراقيل لإفشال جهود السود، وإطالة أمد حكمهم، مدفوعين بأطماع استعمارية، تحركهم عقلية عنصرية، ومخاوف غريزية من المستقبل الغامض.
من جهة ثانية، كان حزب "أنكاثا" يطالب بالانفصال، وإقامة مملكة الزولو، رافضاً الانتخابات، وخيار الدولة الاتحادية، مهدداً بشن حرب أهلية.. وبالفعل، نفذ تهديداته، وشن حملات إبادة ضد القرى والبلدات المؤيدة لحزب المؤتمر الإفريقي (ANC)، وارتكب مذابح فظيعة. 
وكان حزب المؤتمر القومي الإفريقي يرفض التفاوض مع البيض، ولا يعترف بتمثيل (ANC)، ولا بقيادة مانديلا، ويطالب بحكومة وطنية دون مشاركة البيض والهنود.
وكانت ويني زوجة مانديلا تقود تظاهرات شعبية ضخمة مطالبة بعودة الكفاح المسلح، ومقاتلة البيض.. ومع تزايد أعمال القتل والإبادة على يد أتباع "أنكاثا"، أخذت الجماهير تنتقد سياسة مانديلا السلمية، وتطالب بالرد والثأر وحمل السلاح.
دي كليرك هو الرئيس الفعلي، ويضع العراقيل والاشتراطات أمام مانديلا.. فيما أطراف متشددة من الحزب الوطني والأجهزة الأمنية تسلح قبائل الزولو، وتحرضها ضد حزب (ANC).
مانديلا يتهم دي كليرك بالتواطؤ، ودعم خصومه، وغض الطرف عن المذابح التي بلغت أرقاماً غير مسبوقة، راح ضحيتها من الأبرياء أضعاف من قتلوا طوال فترة الفصل العنصري.. بينما دي كليرك يتهم مانديلا بالضعف، وعدم القدرة على ضبط الأمور، فقد خرج كل شيء عن نطاق السيطرة.
دي كليرك يتعرض لانتقادات من البيض، خاصة المتطرفين، الذين يطالبونه بعدم الرضوخ، ويعاني من صعوبة إقناعهم بالتخلي عن امتيازاتهم.. أما مانديلا فيواجه صعوبات في إقناع شعبه بالتخلي عن نزعة الانتقام، وترك الماضي بآلامه، والتحلي بروح المسامحة.
المفاوضات وصلت طريقاً مسدوداً، إلى أن توقفت.. لكن مندوبين من الطرفين تواصلوا سراً، لإنضاج الحل.
بإصرار، وهدوء، وبروح مفعمة بالإنسانية، وعقل منفتح، وصلابة لا تقبل التهادن.. تمكن مانديلا من تجاوز كل تلك العقبات، إلى أن خرج الشعب بكل مكوناته وتوجه إلى صناديق الانتخابات، التي حسمت الأمر نهائياً، لتدشن جنوب إفريقيا عهد الحرية والمصالحة والمساواة والديمقراطية، مسقطة نظام العنصرية مرة أخيرة، وإلى الأبد.
في العاصمة النرويجية أوسلو تصافح الزعيمان مانديلا ودي كليرك، لاستلام جائزة نوبل للسلام.. وفي داخل كل منهما إصرار على تصدر المشهد.. لم تكن المسألة شخصية، بل كانت صراعاً بين صورتين: صورة الرئيس الأبيض الذي تنازل عن الحكم، وتخلى طواعية عن السلطة لتجنيب البلاد حرباً أهلية.. مقابل صورة الزعيم المكافح، الذي صبر على السجن، وتحلى بالحكمة والشجاعة، وقاد شعبه نحو الخلاص، وقضى على التمييز العنصري.
أمام شرفة الفندق التي وقف عليها الرجلان، حسمت الجماهير المحتشدة موقفها، وهتفت لمانديلا بوصفه رجل السلام والقائد التاريخي، كما هتفت ضد دي كليرك ونعتته بالعنصري البغيض.. ما دفعه للانسحاب والاختفاء للأبد.. بينما ظل مانديلا حياً في قلوب الملايين، ورمزاً للنضال والتحرر والإنسانية.