المشكلة في العراق ليست في منصب عادل عبد المهدي

عبير بشير.jpg
حجم الخط

عبير بشير

لم يكن إحراق المتظاهرين العراقيين مبنى القنصلية الإيرانية في النجف حدثاً عادياً- وردود الفعل عليه وأبرزها مذبحة الناصرية- وربما تفوق هذا الحريق بدلالاته على كل الحرائق التي اندلعت في إيران في الآونة الأخيرة.
فهو ليس فقط مقراً إيرانياً في العراق، بل يمثل رمزية شيعية عميقة الجذور، وهو يمثل ذروة الغضب الشعبي والاجتماعي الشيعي من الدور الإيراني البغيض في العراق، والذي تسبب بتبديد عشرات المليارات من ثروات العراق، في زمن نوري المالكي الذي عينته طهران، والذي استخدم قسطاً هائلاً منها لتمويل مشروع قاسم سليماني في التوسع الإقليمي.
هناك خروج شيعي اجتماعي على المنظومة السياسية التي فرضتها طهران على العراقيين، بتواطؤ أميركي، ما أدى إلى احتقان اجتماعي شيعي عراقي أعاد إنتاج حساسياته التاريخية بوجه محاولة إيران الدؤوبة على مصادرة موقعه الروحي والعقائدي وإخضاعه لنفوذها، ما أدى إلى صدام عنيف بين وطنية عراقية صاعدة أعادت تعريف هويتها الاجتماعية والعقائدية وفقا لشروطها، وصل لدرجة إحراق صور علي خامنئي وقاسم سليماني، في المناطق ذات الأكثرية الشيعية.
ويعتبر العراق اليوم السوق الأول لتصريف المنتوجات والسلع الإيرانية، وتحديداً الرديء منها، وذلك على حساب الصناعة العراقية المحلية التي لم تتمكن من منافسة المنتج الإيراني، الأمر الذي دفع بالعراقيين لإغلاق الكثير من مصانعهم ومعاملهم.
ولا يمكن تفسير ابتعاد «حزب الله» عن التعليق عما يجري في العراق، إلا أن الحزب يشعر بإحراج شديد لم يسبق أن مر به منذ زمن بعيد، بسبب أنه متهم بأنه استفاد بشكل كبير من الأموال العراقية المنهوبة.
وأجبرت التظاهرات الشعبية الدموية في العراق، رئيس الوزراء عادل عبد المهدي على تقديم استقالته للبرلمان، وقال عبد المهدي إن قراره هذا يأتي استجابة لطلب المرجعية الدينية في النجف- التي دعت البرلمان العراقي إلى إعادة النظر في خياراته، وتفادي انزلاق العراق إلى دوامة العنف، والتصرف بما تمليه مصلحة العراق، ويرى المراقبون أنه في حال التوافق على بديل لعبد المهدي، فلن يكون ذلك إلا حلا ترقيعيا للأزمة العراقية.
لذلك رد المتظاهرون العراقيون على هذه الخطوة، باعتبار أن المشكلة في العراق ليست في منصب رئيس الوزراء، ولا بإيجاد بديل عنه، ولكن مع كل المنظومة السياسية لعراق ما بعد 2003، وأن المطلوب هو إقالة الطبقة السياسية بأكملها، وتفكيك الميليشيات، ومعالجة قضايا اقتصادية واجتماعية، ووقف تدخلات إيران، وهي المهمة الأكبر والأخطر، وإعادة النظر في الدستور العراقي وتشكيل نظام سياسي بعيد عن المحاصصة ومبني على الهوية الوطنية والتوزيع العادل للثروات العراقية.
ولم يسبق أن دخل المرجع الشيعي السيد علي السيستاني على خط الاحتجاجات المناوئة للنفوذ الإيراني في العراق مثلما يفعل اليوم لحماية انتفاضة العراقيين. فهو أصبح على قناعة بأن الانتفاضة، ذات طبيعة اجتماعية عراقية، محركها الأساسي طبقة شيعية محرومة تواجه طبقة سياسية شيعية فاسدة، وأن هناك حاجة ماسة لتحرير الدولة العراقية من المليشيات الموالية لطهران.
وأعطت المرجعية الدينية الشيعية في النجف غطاء معقولا منذ البداية، لانتفاضة الأول من تشرين الأول في العراق، وطالبت بالحفاظ على سلميتها، وبذلك تكون المرجعية في فهمها لديناميكية المتظاهرين، وربطها بتحولات اجتماعية وثقافية وسياسية والحاجة لعملية إصلاح حقيقية، تكون قد ردت على اتهامات لطالما طالتها معتبرة أن تبني المرجعية الدينية للعملية السياسية منذ 2003 أمن غطاء شرعياً للطبقة السياسية الفاسدة التي حكمت العراق.
وعلي السيستاني سليل مدرسة الخوئي في النجف، وهو يقول إنه اضطر بعد عام 2003 إلى التعامل مع ملف السياسة في العراق في ظروف بالغة الحساسية. فمن جهة كان عليه التجاوب مع مطالب الشارع الشيعي، والانخراط في السياسة، ومن جهة أخرى كان عليه التعامل مع ما آمن به من نظرية سياسية فقهية، دعته إلى أن يتجنب الدخول في تفاصيل السياسة.
الآن تظهر ملامح التأسيس التاريخي في العراق متأخرة، لقد رد العراقيون بثورتهم الحالية على الاحتلال الأميركي والوصاية الإيرانية، وهزوا بشدة العلاقة الخاصة بطهران بوصفها أحد الأعمدة التي قام عليها عراق ما بعد 2003.
ومما لا شك فيه أن تقلص العامل المذهبي، خصوصاً لدى شيعة العراق، أدى إلى بروز معضلة بنيوية في علاقتهم مع طهران- الجارة-، وموقفهم من هيمنتها على قرارهم الوطني منذ سقوط نظام صدام حسين.
نعم، الجغرافيا قدر لا يمكن زحزحته، وإيران دولة كبيرة وعريقة في الإقليم. ووجود جارها العراق هو عريق أيضا، لكن هذا الجوار سيبقى صعباً ومفخخاً ما لم يرتكز إلى لغة جديدة، قوامها العزوف عن سياسة التسلل وإمساك الأوراق داخل خرائط الآخرين.
لقد حالت الحرب العراقية – الايرانية على الرغم من دمويتها وقسوتها، دون انهيار خط الحدود الفاصل بين حضارتين، على حد تعبير الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران في سياق تبريره لدعم العراق عسكرياً في تلك الحرب. بقيت الحدود العراقية – الايرانية طوال قرون رمزاً للتوازن القائم في المنطقة، وهو توازن ما لبث أن انهار بعد العام 2003 بتخطيط أميركي.