بعد أسبوع من الهدوء النسبي في الجنوب، تتطلع العيون في نهاية هذا الأسبوع، مرة اخرى، الى الجدار الفاصل في قطاع غزة. بعد ثلاثة أسابيع قررت فيها "حماس" وقف "اعمال الشغب" العنيفة كي لا تنجر الى فخ يعده لها "الجهاد الاسلامي"، الذي يهدد باستئناف النار في كل حدث يكون فيه قتلى فلسطينيون بنار الجيش الإسرائيلي. السؤال الكبير هو إذا لم تلغِ "حماس" التظاهرات في اللحظة الاخيرة هل ستكون التظاهرات أكثر لجماً وانضباطا؛ بحيث يتقلص مسبقا الاحتكاك واللقاء بين آلاف الفلسطينيين ومقاتلي الجيش الإسرائيلي على الجدار؟ الاجابة على ذلك سنتلقاها على ما يبدو منذ اليوم (أمس).
تتقدم إسرائيل و"حماس" في الخفاء نحو اتفاق تهدئة، ولكن تاريخ المواجهات بينهما، التوترات الداخلية في غزة، والواقع السياسي المعقد في إسرائيل، يشكّل تذكيراً بأنه الى أن تكون تسوية في القطاع، فان الامكانية الكامنة لجولات تصعيد اخرى تبقى عالية جدا. عدد صغير من الاحداث الشاذة في القطاع (ولكن غير الاستثنائية في الواقع الغزي)، مثل تظاهرات مع قتلى، نار صواريخ أو حتى اشتباك مع خلية "مخربين" على الجدار، قد تغير الصورة في غضون وقت قصير من الأقصى الى الأقصى. ولكن في الميدان تجري منذ الآن أمور ترتبط بالتنمية الاقتصادية للقطاع لم نرها في الماضي، كإقامة مستشفى في منطقة معبر ايرز، مشاريع لمنظمات دولية، ضخ المال القطري وغيره، اعمال تتم منذ الآن، يتوقعون في إسرائيل ان تؤدي الى تحسن اقتصادي في القطاع، حتى وان كان محدودا وضيقا. اضافة الى ذلك، فان مواضيع كانت في الماضي بمثابة أمر محظور من ناحية إسرائيل، وبالتأكيد حتى انهاء المفاوضات لاعادة الاسرى والمفقودين، توجد الآن على طاولة المباحثات – من خط كهرباء إضافي الى القطاع، عبر منطقة صناعية مشتركة في معبر كارني، وحتى مشاريع اقتصادية واعدة اخرى.
الجزيرة الاصطناعية امام شواطئ غزة، التي رفعت مرة اخرى الى العناوين، مؤخرا، لا توجد هي بالذات على جدول الاعمال. ربما ترد في المستقبل البعيد. فعندنا، مثلما في غزة، يبحثون في امور بسيطة يمكن تطبيقها بشكل فوري. وليس الامور الخيالية. منذ الآن يوجد لنحو 5 آلاف من سكان القطاع تصاريح تجارية مع إسرائيل. ظاهرا كلهم تجار، ولكن حتى عندنا يعرفون بان جزءا من سكان غزة ممن يعبرون عبر اراضي إسرائيل الى الضفة، يعملون هناك عمالا وليسوا تجارا.
من المهم أن نفهم انه ليس لجهاز الامن حقا مشكلة في هذا. فالجيش ومنسق الاعمال يؤيدان امكانية ان يعمل 6 حتى 8 آلاف من غزة في إسرائيل كل يوم. في المخابرات الإسرائيلية يعارضون ذلك، وفي الماضي عارض الكابنت موقف الجيش. وفي أوساط وزراء الكابنت ايضاً طرأ تحول لصالح موقف الجيش، ولكن انطلاقا من الفهم بان مثل هذا القرار في الوضع السياسي الراهن هو بمثابة مادة متفجرة. وعليه، فاذا كنا امام معركة انتخابية اخرى، من المعقول الافتراض بأن الاقتراح سيرفع الى الرف اشهراً عديدة الى أن تقوم حكومة مستقرة. في كل الاحوال، فان الحوار حول تسوية مع القطاع يجري بالضبط في المستوى الذي لا يثير ضجيجا سياسيا وانتقادا، وليس صدفة أنه أبقي في حالة غموض شبه مطلق في الجانب الإسرائيلي. ومع ذلك، من الصعب توقع قرارات دراماتيكية في الوضع القائم بحيث ان المحاولات في هذه اللحظة تتركز على الحفاظ على الاستقرار.
في الجانب الإسرائيلي يجيدون في وصف الميول التي تغيرت منذ تصفية مسؤول "الجهاد الاسلامي"، بهاء ابو العطا: الضربة التي تلقتها المنظمة، قرار "حماس" عدم الدخول في جولة تصعيد، وثلاثة اسابيع بدون "اعمال اخلال" عنيفة على الجدار، حتى عندما وقعت أحداث شاذة. وبناء على ذلك، فان الرد الإسرائيلي هو الآخر كان منضبطا جدا. في محاولة لاعطاء "حماس" مزيدا من الفرص للسيطرة على الميدان، لم تكن العلاقات بينها وبين إسرائيل أقرب مما هي عليه اليوم. حتى لو كانت تجري بشكل غير مباشر.
صحيح أن الظروف الكاملة لتسوية بعيدة المدى مع "حماس" لم تنضج بعد، ولكن الجيش الإسرائيلي يلاحظ نافذة فرص مناسبة لذلك. ومع ذلك، في قيادة المنطقة الجنوبية يفهمون جيدا بان الحديث يدور عن عالم متملص من المفاهيم، وان بانتظارنا أزمات أخرى مع القطاع الى أن يحصل هذا.
"القناة المجمدة"
في إسرائيل يفضلون الحديث عن غزة، عن العدو، وعن التغيرات التي وقعت هناك بفضل الردع وعدم جدوى الصراع مع الجيش الإسرائيلي. يتحدثون عن الاشارات من "حماس" للتسوية، وعن السياسة البراغماتية التي يتخذها زعيم المنظمة، يحيى السنوار. أما عن السياسة الإسرائيلية فيطيب لهم ان يتحدثوا عندنا بقدر اقل. الحقيقة هي انهم مثلما يشعر الناس في قطاع غزة برياح التغيير ففي السياسة الإسرائيلية في السنة الاخيرة طرأت تغييرات حقيقية.
اذا كانت إسرائيل في الماضي اشترطت التقدم في الخطوات الاقتصادية المهمة في غزة كخط كهرباء اضافي وحل مسألة الاسرى والمفقودين، فان هذه الاشتراطات تقلصت على طول الطريق. ولا تزال الفجوات بين الطرفين هائلة وغير قابلة للجسر في هذه المرحلة.
ان وسائل الضغط التي تبقت لإسرائيل هي نشطاء "حماس" الذين اعتقلوا خلال حملة "الجرف الصامد" في 2014، "مخربون" من محرري صفقة شاليت ممن اعتقلوا مرة اخرى بعد مقتل الفتيان الثلاثة في غوش عصيون وجثامين "مخربي حماس". على هذا الملعب إسرائيل مستعدة لأن تلعب، ولكن "حماس" تريد أكثر بكثير. لقرار وزير الدفاع نفتالي بينيت (الذي يتطلب اقرارا من الكابنت) ألا يحرر جثامين "مخربين" من منظمات "ارهاب" في غزة وفي الضفة، لا يوجد تأثير حتى ولو طفيفاً في هذه المسألة. وهكذا يعتقدون في الجيش والمخابرات على حد سواء. وفي هذه اللحظة يتقدم المسار الى التسوية في قناة مختلفة تماماً عن قناة الاسرى والمفقودين. قناة واحدة نشطة جدا والأخرى مجمدة.
جولة التصعيد الاخيرة، التي انتهت باحساس بنجاح اكبر للجيش الإسرائيلي، والتوقف الذي قد يكون مؤقتاً لأعمال الاخلال العنيفة بالنظام على الجدار، توفر الآن للقيادة السياسية مجال مناورة اكبر في اتخاذ القرارات ليس تحت الضغط وممارسة "الارهاب" من القطاع. للقيادة السياسية توجد مرونة اكبر للتسهيلات تجاه القطاع، ولكن مثلما في مجالات اخرى، العقدة السياسية تؤثر على قدرة اتخاذ القرارات. عشية الانتخابات المحتملة في إسرائيل، من المعقول الا تتخذ قرارات ثقيلة الوزن بشأن التسوية في غزة.
ان الخطاب الجماهيري عن التهديدات الآتية من إيران، حلف الدفاع مع الولايات المتحدة، وضم غور الأردن هي مواضيع ذات جاذبية اكبر وجدوى اكبرى من ناحية سياسية مقارنة بالوحل الغزي. ولكن الارادات والاحابيل الاعلامية ايضا قد تلتقي في النهاية مع الواقع على الأرض. بكلمات اخرى، ينبغي الافتراض ان يكون لما يجري في قطاع غزة في الفترة القريبة القادمة تأثير اكبر على جدول الاعمال الجماهيري في إسرائيل من سلسلة المواضيع الامنية والسياسية التي طرحها السياسيون المختلفون، مؤخرا.
عن "معاريف"