متى، وكيف نشأت الأمة العربية؟ (2 من 2)

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

كان حلم "قصي بن كلاب" تحويل قريش من قبيلة مستضعفة تسكن الجبال والشعاب إلى القبيلة الحاكمة التي تسيطر على محيطها الجغرافي، وتمسك بزمام السلطة والثروة في العاصمة الدينية المقدسة "مكة".. لتغدو أشرف قبائل جزيرة العرب.. ثم جاء أحفاده "هاشم" و"عبد المطلب" ليلعبا دوراً مميزاً في قيام دولة قريش.. وهكذا، وبعد قرن ونصف من وضع البذرة في الأرض وبين حصاد الزرع، قامت الدولة في يثرب، على يد حفيد "قصي"، محمد بن عبد الله، بدءاً من عام 622م. ولكن ضمن مشروع أوسع وأشمل بكثير.
ففي وسط الجزيرة، في الثلث الأخير من القرن السادس الميلادي كانت اللغة والآداب وعلى رأسها الشعر، ونشوء المؤسسات كدار الندوة وسوق عكاظ وإيلاف قريش والحج، وظاهرة الأحناف والصعاليك ومعركة ذي قار وغيرها، مقدمات موضوعية تمهد لنشوء وتكون الأمة على المستويات الاقتصادية والدينية والاجتماعية والسياسية واللغوية.
وحتى ذلك الوقت كان مجتمع الجزيرة العربية مجتمعاً بدائياً من الناحية الحضارية، إذا ما قورن بحضارات معقدة ومتطورة كالحضارة المصرية والعراقية واليونانية والرومانية والفارسية، فلم تكن قد تكونت للعرب دولة أو إمبراطورية، وليس عليهم ملك واحد، وليس لهم جيش موحد، بل كان هناك مجتمع بدوي رعوي، وحتى في المناطق الحضرية لم تكن المدن قد نضجت بعد.
فإذا اتفقنا على أن الأمة تكوّن حضارتها عبر مراحل تاريخية متلاحقة على نفس البقعة الجغرافية وبلغة مشتركة، مشكِّلةً شخصيتها الانفرادية وتاريخها المتصل، فإن الأمة العربية بهذا المعنى وفي تلك الحقبة تحديداً كانت على موعدها التاريخي مع الحدث الأهم الذي سيلعب الدور الأساسي في صقـل شخصيتها وتأطير وجودها وتوحيدها؛ ألا وهو الإسلام، ليصبح الإسلام محور الهوية العربية، والعرب مادته وإطاره البشري. وصار ممكناً بعدها القول بوجود أمة.
فبين العروبة والإسلام علاقة متشابكة ومتداخلة، أكثر من علاقة أي دين آخر بأية قومية؛ فالقوميات الحديثة وتحديدا في أوروبا نشأت في مواجهة الكنيسة، بينما نشأت القومية العربية وتكاملت مع الإسلام.
لم يكن مجيء الإسلام معاكسا لمجرى التاريخ، ولا متقاطعا مع ما كان سائداً، ولا حتى متخاصماً مع كثير من القيم والعادات التي ألِفها العرب في مرحلة ما قبل الإسلام، وفي هذا يورد "خليل عبد الكريم" في كتابة "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية" العديد من الأمثلة من الأنماط السلوكية والعادات والأعراف التي كانت سائدة قبل الإسلام، ومنها: الشعائر التعبدية؛ كتعظيم الكعبة، وطقوس الحج، وتحريم الأشهر الحرم، وتبجيل إبراهيم وإسماعيل، وتفضيل يوم الجمعة. وفي المجال الاجتماعي يورد أمثلة إضافية: كالرقى والتعاويذ وتعدد الزوجات والاستجارة وحرمة النسب والاسترقاق. وفي المجال الجزائي يورد: القسامة ودفع الدية وقطع يد السارق. وفي المجال السياسي والعسكري يورد: الغزو وخُمس الغنائم والسلب والسبايا والخلافة والشورى.
وإذا كان مجتمع الجزيرة قبيل الإسلام يعيش مرحلة بقايا المشاعية، كمرحلة طبيعية في سلسلة التطور الاقتصادي والاجتماعي، مرت بها كل الشعوب والحضارات، فإن ما حدث تاليا وبالذات بعد عصر الخلفاء الراشدين، يعتبر إزاحة لبقايا أخلاقيات مرحلة الأمومة؛ حيث ودع الأمويون قيم المشاعية، وشرعوا ببناء سلطة طبقية قومية، تتغطى بعباءة الدين.
وهذا التطور الجديد يؤكد أن مرحلة جديدة قد حلت وقامت بابتلاع شكل العلاقات البدائية لحكم القبائل ومشاعيته، لتحل محلها دولة جديدة، ذات محتوى قومي.. وشكل أشبه بالإمبراطوري، جاء ليستوعب التغيرات الهائلة التي طرأت على المجتمع العربي خلال فترة النبوة، والخلافة الراشدة.
إذاً، نواة الأمة العربية تشكلت بداية في جزيرة العرب، ثم امتزجت مع الحضارة اليمنية، بعد الإسلام، وبعد "الفتح" العربي الإسلامي للبلدان التي باتت تعرف اليوم بالوطن العربي، صهرت الثقافات والحضارات التي كانت سائدة آنذاك: حضارات ما بين النهرين، حضارات بلاد الشام، حضارة وادي النيل، الحضارة الأمازيغية.. فوحدتها لغوياً، ودينياً، وثقافياً، وشكلت مادتها البشرية، وبنت حضارتها.. خاصة بعد أن حكمها الأمويون والعباسيون.
ولكن، منذ عصر الأمويين وحتى سقوط الخلافة التركية، كانت الشخصية العربية ذائبة في الشخصية الإسلامية، تحت راية الخلافة، ولم تكن قد تبلورت شخصية قومية عربية بالمعنى الحديث؛ فحتى نهايات القرن التاسع عشر لم تكن القومية العربية قد بنت أيديولوجيا متماسكة، ولم يكن مصطلح القومية رائجاً. ويمكن النظر إلى ساطع الحصري (1879-1968) في ذلك الوقت باعتباره المنظر الأول والأهم للقومية العربية، والتي انتقلت معه من نزعة سياسية إلى أيديولوجيا حداثية علمانية، تقوم على رابطة اللغة والتاريخ، مع نفي أية أبعاد دينية.
ثمة رافدان إضافيان للقومية العربية الحديثة، الأول: نزوع مسيحيي الشام إلى تجاوز النزاعات الطائفية مع المسلمين وغيرهم، والدعوة لدمج الجميع تحت هوية قومية جامعة على قدم المساواة، والحرص على تأكيد انتمائهم إلى الأمة العربية. الثاني: تحول القومية العربية إلى أداة سياسية ونضالية للتخلص من الاستبداد العثماني، ومن الاستعمار الأجنبي لاحقاً.
ويعرّف عبد الرحمن منيف القومية العربية بأنها: "رابطة تاريخية تضم وتوحد المجموعات السكانية القاطنة في هذه البقعة من العالم، اعتمادا على اللغة والتاريخ والخصائص النفسية والمصالح المشتركة، وهي في مرحلتها الحالية حركة تحرر وطني وتغيير حضاري، تهدف إلى توحيد الشعب وتحرير الأرض والإنسان".
وحتى نخلّص القومية العربية من أدران الشوفينية والعنصرية، يجب النظر إليها بوصفها هوية ثقافية تقوم على اللغة بشكل أساسي وليس وحيداً، ولا تقوم على روابط الدم ونقاء العرق، وأن يكون الإسلام فيها هوية ثقافية، وعامل تجميع، يحتوي ويستوعب كافة الأديان والطوائف.. بمعنى أن تكون انتماءً وليست مفروضة، وألا ننظر إليها باعتبارها قومية عرقية ولا تعصبية، ولا ندعي أنها متفوقة على غيرها من الأمم، وننظر للإنسانية كإطار جامع للكل.
متى نشأت اللغة العربية؟ ومتى اكتملت؟ وكيف نفت اللغات المحلية التي كانت سائدة، وصارت لغة المنطقة من المحيط إلى الخليج؟
موضوعنا في مقال قادم.