09 أيلول 2015
يبدو أن هذه هي المدرسة الوحيدة في العالم التي تحمل اسم طفل عمره عام ونصف. أول من أمس خرجت منها الجنازة الثالثة خلال ستة أسابيع، هذه المرة جنازة أم الرضيع الذي سميت المدرسة على اسمه. ساحة المدرسة، التي على اسم الشهيد علي دوابشة، والتي منحت الاسم قبل بضعة ايام، ولافتة التخليد معلقة على حائطها، امتلأت، أول من أمس، بالمعزين خلال تشريح الجثة في معهد الطب الشرعي في نابلس. في ساعات الظهيرة المتأخرة وصلت سيارة الاسعاف التابعة للهلال الاحمر، وفيها الجثة المحروقة لرهام دوابشة – الزوجة، الأم والمعلمة، التي بقي من عائلتها ناجٍ واحد هو أحمد ابن الرابعة، الذي ما زال يعالج في مستشفى شيبا، ووضعه صعب. توفيت رهام متأثرة بحروقها في يوم ميلادها الـ 27؛ زوجها سعد لفظ أنفاسه قبل ذلك بأربعة اسابيع في الذكرى السنوية للزواج، وابنهما علي البالغ العام والنصف مات بعد أن طالته النار التي أشعلها المجرمون في بيتهم.
رائحة قوية للدخان ما زالت تلف البيت الذي يبعد خطوات عن مدرسة علي، وكأن النار ما زالت تهدد بالانفجار من جديد. إنه منزل مربع بسيط غير كبير، جدرانه الخارجية مقصورة باللون الرمادي، وتغطيها الآن البقع السوداء بسبب النار التي اندلعت في غرفه. صالون، مطبخ وغرفة للاولاد، حيث ربى الزوجان الولدين الصغيرين وحلموا بالحياة. زجاجة الموت الحارقة التي ألقيت من بين القضبان الى داخل غرفة الاولاد النائمين اقتلعت الحلم العائلي الصغير الذي بقي منه الآن الرماد، وثلاثة قبور.
في وسط غرفة الاولاد ما زالت عربة علي هناك وهي مغطاة بالعلم الفلسطيني، أما الباقي فمحروق تماما: التلفاز، الميكرو المتفحم، الستائر الممزقة، النوافذ المحطمة والأرائك المتفككة، بل وكيس مسحوق الغسيل وزجاجة صابون غسل الأواني، كل شيء بقي هنا كذكرى لأبناء عائلة دوابشة.
«مغارة غابة – مُحكمة الاغلاق/ فراغها – مُهتك/ دائرتها – مختومة/ ترابها – محروق/ لا يوجد حجر على حجر/ لا يوجد خبز/ لا توجد نار/ لا يوجد ماء/ فيها الرماد فقط» (موشيه تبنكين).
البيت معتم لا توجد فيه كهرباء بالطبع. والارض مغطاة بطبقة سميكة من الرماد. هدوء مزعج وصعب يقف في هذا الفراغ. يصعب البقاء بتوازن نفسي، يصعب البقاء أكثر من بضع دقائق. يمكن أن يتحول هذا البيت الى مكان لحجيج الكثير من الاسرائيليين، ولكن، أول من أمس، لم يُشاهد الاسرائيليون اليهود أبدا باستثناء صحافي أو اثنين. بعض الشباب الفلسطينيين جلسوا على مدخل البيت كأنهم يدافعون عنه من كارثة أخرى. الرسومات على الجدار في الممر جديدة: يد عليها نجمة داود تحرق سرير الطفل المحاط بالجماجم السوداء. بعد قليل، عندما ستنطلق الجنازة، سيهتف الشباب ويكررون: «اسرائيل دولة ارهاب، اسرائيل دولة ارهاب»، وكأن الصدى سيرتد من بيوت القرية.
فوق عربة علي المحترقة علقت صورة للعائلة: أم وأب وطفل، بالاسود والابيض. صورة عادية يوجد مثلها في كل بيت تقريبا وعلى كل ثلاجة. الآن كل من هم في الصورة أموات. يصعد صوت طفل يبكي من المنزل المجاور. دوما تنتظر بتوتر واضح الميتة الجديدة. يتجمع السكان على أسطح المنازل وعلى النوافذ. قرية فلسطينية نائية، توجد في خط هوائي مستقيم مع تل ابيب.
في ساعات الظهيرة وقف عشرات الشباب، أول من أمس، وملامح الغضب واليأس واضحة على وجوههم، وقد توزعوا على الزوايا والشوارع وعلى الطريق المؤدية الى المدرسة. حاجز طيار للجيش الاسرائيلي، فيه قوات معززة، وضع على الشارع الرئيسي، ومنع الجنود الاسرائيليون استمرار السفر بحجة وجود رشق للحجارة في الطريق. لم نشاهد شيئا كهذا، ومع ذلك فان الأجواء في القرية كانت متوترة ومتأهبة. اثنان من أقارب القتيلة انتظرانا في المدخل، ورافقانا الى المدرسة، وهناك على احد التلال البعيدة عن القرية يمكن أن يكون قتلة عائلة دوابشة جلسوا وضحكوا في تلك اللحظة. لم يتم اعتقالهم بعد، ويمكن أنه لن يتم. حينما تم خطف الفتيان الثلاثة جلعاد شاعر ونفتالي فرنكل وايال يفراح، تصرفت الاذرع الأمنية بطريقة مختلفة تماما: «عملية عودوا أيها الاخوة» انطلقت. أحد المعتقلين في حينه، الشيخ حسن يوسف، جاء، أول من أمس الى جنازة رهام دوابشة.
الشيخ حسن من قادة «حماس» في الضفة، والد «الأمير الاخضر» (عميل «الشاباك» الاسرائيلي الذي اعتنق المسيحية وهاجر)، جلس في الصفوف الاولى في ساحة المدرسة، وأكثر من المقابلات مع وسائل الاعلام الفلسطينية. قتلة الفتيان الثلاثة تم كشفهم وقتلهم. أول من أمس في دوما أرادوا رؤية نتيجة مشابهة لقتلة أبناء القرية الثلاثة.
هناك لافتة في ساحة المدرسة كتب عليها «الاحتلال هو الجريمة الأبشع». في دوما ايضا يخطو العزاء مع التطور، يداً بيد. الطلاب والطالبات في المدرسة المختلطة سيتذكرون منذ الآن هذه اللافتة كل يوم عندما يأتون ويذهبون. انطلقت آيات قرآنية طول الوقت من سماعات مسجد القرية. يلفون الحدث بأجواء الحزن. أعلام «فتح»، و2 – 3 أعلام لـ «حماس» وعلم احمر واحد للجبهة الشعبية، جميعها رفعت هنا. فلسطين موحدة للحظة. البيان أعلن أن الجثة خرجت من نابلس وهي في طريقها إلى دوما.
وبعد ذلك بنصف ساعة وصلت سيارة الاسعاف فزاد هتاف الشباب ومعه ازداد الغضب: «بالروح، بالدم نفديك يا شهيد». جثة رهام أُخذت أولا إلى منزل والديها، وهناك أقيمت صلاة قصيرة، ومن هناك أحضرت الى ساحة المدرسة التي سميت باسم ابنها. وقد علّمت رهام في القرية المجاورة جوريش. ومن زارها في العناية المركزة في مستشفى شيبا عندما كانت مخدرة وتتنفس اصطناعيا قال إن وجهها لم يتضرر، وكانت ملامحه مستقرة. 90 بالمئة من جسمها احترق بأعلى درجات الحروق.
ستة جنود فلسطينيين مسلحون ببنادق قديمة حملوا جثتها وهي مغطاة بحرام باللون البني، وبسرعة تمت تغطيتها بالعلم، ووضعت على ارضية ملعب كرة السلة في المدرسة، دقيقة صمت، صلاة الجنازة، وبعد ذلك أخذت الى المقبرة المهملة في القرية غير البعيدة. بين منازل لم ينته بناؤها بعد، الطريق الى المقبرة تمر بحقول من الاشواك، واغلبية القبور مهملة. بعد بضع دقائق ستُدفن رهام الى جانب زوجها وابنها، في القبر العائلي الذي لم يخطط له أحد في القرية.
مئات الاشخاص التفوا حول القبر والكثيرون نظروا من المباني القريبة في الوقت الذي تحدث فيه ممثلو السلطة الفلسطينية. رغم الغضب، ورغم أن هذه هي الجنازة الثالثة، ورغم أن إسرائيل لم تعتقل القتلة، فقد حافظوا هنا على ضبط النفس، ولم يبدُ للحظة أن هذا الغضب يخرج عن السيطرة.
الجد حسين جلس على كرسي بلاستيكي، وهو والد المقتولة، لحيته طويلة ولغته العبرية جيدة، وقد تحول الى شخصية معروفة في إسرائيل، وهو لم يغادر سرير ابنته وحفيده في شيبا. ملامح الاسابيع الاخيرة بدت واضحة على وجهه، وقد ظهر، أول من أمس، متعبا ومستنزفا، يشرب الماء ويصمت. موت ابنته التي كان وضعها الصحي حرجا منذ البداية، كان متوقعا، ومع ذلك فقد ظهر، أول من أمس، وكأن هذا الرجل القوي يتحطم الى شظايا. هذه هي الجنازة الثالثة لأيوب عصرنا، في البدء حفيده وبعد ذلك صهره والآن ابنته. كان عليه الاسراع بالعودة الى سرير حفيده الثاني، احمد (4 سنوات)، وهو طفل محروق، جده هو كل ما بقي له من الحياة. أول من أمس كان على قناعة أن أحمد قد فهم من أعماق نفسه أن أمه ماتت.
عن «هآرتس»