البيان رقم مليون

عبد الناصر النجار.jpg
حجم الخط

عبد الناصر النجار

ربما كان الشعب الفلسطيني الشعب الأول في العالم قراءةً للبيانات التي تصدر بالجملة، فهي ظاهرة يومية، ولعل البعض وجد في إصدار البيان وسيلة سهلة ومريحة ليقول أنا موجود.
هناك بيانات من الحكومة والوزارات والمؤسسات والمنظمات الأهلية والجامعات والمحافظات والمراكز الفنية والقطاعات الصحية والاجتماعية، والشفافية، والقضائية، والنساء والرجال وحتى الأطفال … والأحزاب الدينية والشعبوية وتلك التي لا تضم سوى أمينها العام وعشرة أشخاص.
بيانات تشجب وتستنكر وتوضح وتعبر عن الرأي الواحد وتعلق الأخطاء على الغير، وتؤكد شفافيتها، وأنها القادرة على السير بسفينة الوطن نحو الميناء الأخير الذي لم تعرف أين هو بعد، وكيف نصل إليه.
ربما وضعنا لا مثيل له في العالم بسبب هذا الكم من البيانات التي حلت محل الفعل المنظم والقادر على إثبات الوجود.
البيانات باتت تعبر أيضاً عن مشهد من مشاهد الحرب الإعلامية والتراشق بالكلمات، والحمد لله لم تصل إلى مرحلة الرصاص بعد أن جُرب في العام ٢٠٠٦ خلال الانقلاب، هذه الحرب التي لم تترك هامشاً ولو بالحد الأدنى لوجود قاعدة مشتركة تجمعنا في ظل الحرب الوجودية التي تشن على قضيتنا من أكثر من طرف ابتداء من الاحتلال ثم الإقليم وصولاً إلى العالم.
كثرة البيانات خلقت موجات تشويش لدى الغالبية من الفلسطينيين، بحيث ترى أن مواقفهم وآرائهم في كثير من القضايا وخاصة المحلية متباينة بل وتشهد واستقطاباً لم نشهد مثله سابقاً.
في هذا الأسبوع كانت هناك مجموعة من القضايا التي تحتاج إلى موقف واضح، وبرنامج أو على الأقل رؤيا أخلاقية، أو ميثاق شرف وطني لكيلا نغرق في مشاكلنا الداخلية، دون أن تكون لنا قدرة على مواجهة القرارات الخارجية، والاعتداءات الإسرائيلية وعلى رأسها الاستيطان الذي افترس الأخضر واليابس، ولم يعد أمامه أي خطوط لا حمراء ولا سوداء، بحيث أصبح الاستيطان واقعاً بل اجتازته الأحداث إلى مفهوم ضم الضفة الغربية حيث أكبر حزب في إسرائيل الليكود ومعه اليمين الإسرائيلي وحزب أبيض أزرق يسارعون للإعلان عن مواقفهم المؤكدة على ضم غور الأردن، نتنياهو صعد خطابه أمس قائلاً حكومة من الليكود واليمين ستعلن فوراً عن ضم الضفة الغربية.
في ظل هذا التصعيد الخطير نحن غارقون في مشاكلنا الداخلية، فخلال هذا الأسبوع أغلق الطلبة جامعة بيرزيت وحتى كتابة هذه الأسطر لم تفلح كل الجهود والواسطات في حل المشكلة، بيرزيت في حال أغلقت مدة أسبوع فستكون الخسارة كالآلتي: ٧ أيام بمعدل ٨ ساعات تدريسية يعني ٥٦ ساعة لـ ١٥ ألف طالب يعني ٨٤٠ ألف ساعة تدريس، والسؤال من هو القادر على التعويض أم أن التعليم عند البعض أصبح يوازي التلقين .. في العالم الجامعات تقاس بأبحاثها العالمية، والطلبة المتميزون معيار نجاحهم الأبحاث العلمية .. نعم للنشاطات الطلابية الهادفة .. نعم لحرية التعبير والرأي .. نعم للتعددية الحزبية والسياسية .. ولكن لا كبيرة إلى تعطيل الدراسة لأي سبب كان ولا كبيرة أيضاً لإقحام الجامعات في قضايا العسكرة ولو كانت سطحية أي اللباس العسكري والتلثم .. ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة لأننا ما زلنا قاصرين عن فهم ديمقراطيتنا الناشئة.
نخرج من قضية بيرزيت إلى قضية اتفاقية «سيداو» التي أصبحت الشغل الشاغل، وبدأ التراشق وحرب البيانات والتغريدات والرسائل النصية في وسائل التواصل الاجتماعي، محور الحرب هي المرأة الفلسطينية، والكل أصبح قادراً على التحليل والسب والشتم والاتهام.. بيانات ثم بيانات ثم تأتي مشكلة انقطاع التيار .. والحرب الإعلامية عن المسؤول عن هذه المديونية ودور المخيمات.. حتى تصريح رئيس الوزراء حول تحمل الحكومة دفع الديون المتراكمة أدى إلى حرب بين المخيمات وأيضاً خارج المخيمات، البعض فهم أن الحكومة ستدفع بدل الكهرباء إلى يوم القيامة.. والبعض الآخر أصبح خائفاً من أن يكون هذا فخ من أجل تركيب عدادات والبدء بالتسديد والبعض فهم أن المقصود هو مساعدة شركة الكهرباء.. وقد ضعنا بين تفسير التصريح.
وقبل ذلك بيانات حول المستشفى الأميركي هل هو مستشفى أم قاعدة عسكرية أم احتلال أم ماذا؟؟ من المسؤول وكيف نتصرف، لا نعرف سوى بيانات تستنكر وبيانات تشجب وأخرى تطالب والمستشفى أصبح أمراً واقعاً!!!
حتى مسيرات العودة الظاهرة التي كنا نعتبرها نقطة مضيئة على الرغم من محاولات البعض ركوب موجتها وتوجيهها نحو دفة مصالحه.. ها هي اليوم تتم تصفيتها من أسبوعية إلى المناسبات الوطنية .. ولا ندري كيف ستكون الظروف في المناسبات الوطنية.
آخر البيانات التي قرأتها أمس كان بياناً لاتحاد نقابات عمال فلسطين يندد فيه بقيام الهستدروت بعقد دورة لعمال فلسطينيين في قطاع البناء تتحدث عن قضايا السلامة المهنية والأمان في مواقع العمل.
البيان شجب واستنكر وطالب العمال الفلسطينيين بعدم المشاركة لأن هذه التدريبات تسويق للاحتلال!!
الأولى بالاتحاد أن يعلن عن دورة للعمال في كل محافظات الضفة والقطاع رداً على الاستفزازات الإسرائيلية وألا يكتفي بالشجب والاستنكار؟؟
لا أعرف رقم هذا البيان في حياتي اليومية التي تمر فيها عشرات البيانات كل ٢٤ ساعة .. وربما وصل العدد إلى أكثر من مليون؟!!