عن الحريات الثقافية في فلسطين

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

في غزة، أصدر مشايخ محسوبون على «حماس»، وهم مدرسون في الجامعة الإسلامية، فتاوى تحرم الغناء والموسيقى، وتستهجن قيام فرقة غنائية شبابية بأداء عروض في أماكن عامة، وقد لاقت تلك الفتاوى ردود فعل متباينة، أخطرها تعليقات محمومة على شبكات التواصل الاجتماعي تذم وتشتم الفرقة، وتطالب بطردها من القطاع! ما تم بالفعل، حيث اضطرت فرقة «صول» للهجرة إلى تركيا، خوفا من ردود الفعل العنيفة، ولأنّ غزة في نظرهم لم يعد فيها أي أفق لنوع كهذا من الفن..
بعدها بأسابيع منعت وزارة الثقافة في رام الله فرقة مسرحية من تقديم عرضها في المسرح البلدي بحجة أن ملابس الفنانات غير لائقة (ولم تصدر الوزارة بيان نفي أو توضيح).
بعد ذلك، ضاق هامش الحرية أكثر في جامعة النجاح، حيث تم وقف عرض مسرحية لمسرح «عشتار» الطلائعي، كانت مخصصة لمناهضة العنف الأسري، والعنف ضد المرأة، وقد برر عميد كلية الفنون فعلته بأن المجتمع النابلسي محافظ!
قبل سنوات، حاولت مجموعات من الشبان (بتحريض من حزب التحرير) منع ماراثون رياضي لطلبة المدارس في الخليل، بحجة أن اختلاط الطلاب والطالبات يخدش الحياء العام، وينتهك حرمة المجتمع!
وتذكر الصديقة الفنانة ريم تلحمي قصة حدثت في العام 1993، حين اقتحم ملثم مسرح جامعة النجاح، وكان يحمل سكينا، ويهمّ بالهجوم على طاقم «المسرح الوطني الحكواتي» مهددا وصارخا: «إحنا بنموت وانتو بتعرضوا مسرح».. وعلى إثرها نُقل الفنان عامر خليل إلى مستشفى المقاصد، إثر تعرضه للانهيار العصبي وفقده النطق، وبعد ستة شهور من الإقامة في المستشفى قرر ألا يعود للمسرح، وأن يعمل بستانيا في حديقة مستشفى المطلع.
قبل سنوات، في إحدى المناسبات الوطنية، شاهدتُ عرضا لفرقة فولكلورية محلية قدمت عرضا لدبكة تراثية في الشارع، وما أن انتهى العرض، وهدأت الموسيقى، حتى اقتحم الساحة شابٌ غاضب، لا يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، وصرخ بأعلى صوته: «يلعن أبوكم كلكم، الشهداء قاعدين بموتوا وانتو بترقصوا!».. وهمَّ بالهجوم على الفرقة، لولا تدخل المواطنين وتهدئة خاطره. 
تلك الحالات لم تكن مطراً في سماء صافية؛ كما أنّ واقع الحريات الثقافية في فلسطين ليس ضيقا دائما، وهناك هامش حرية لا بأس به، وأظنه متقدما على دول عربية عديدة تدعي الحرية.. وربما تكون رام الله صاحبة الفضاء الأوسع للحريات، سواء الشخصية، أو الاجتماعية، أو الثقافية، مقارنة ببقية المحافظات، وتلعب بلدية رام الله (وكذلك المحافظة) دورا إيجابيا وداعما في هذا الخصوص.. وربما تكون جامعة بيرزيت صاحبة الفضاء الأوسع في الحريات والمبادرات والحياة الديمقراطية، مقارنة ببقية الجامعات. 
الحجج التقليدية لمناهضي الفنون، المؤيدين لمنع الحفلات الفنية هي: «الحفاظ على القيم والأخلاق»، «احترام ثقافة المجتمع»، «تعارضها مع التقاليد»، «مخالفتها للشرع»، «خدش الحياء».
ولكن، لو دققنا قليلا في المشهد، سنجد دوما أن السبب الحقيقي هو وجود نساء أو فتيات في العرض.. وهذا أدى إلى استنفار البعض في اتجاهين (مترابطين): الأول استحضار قيم الشرف، والثاني: العصابية الذكورية.
وهذا يعيدنا لطرح مفهوم «الشرف» في الثقافة العربية، التي تختزله حصرا في المرأة، وتحديدا في جسدها ومظهرها.. وتلك نظرة دونية متخلفة، تجاوزتها كل الشعوب المتحضرة.
فيما يخص العصابية الذكورية، التي لا تستقوي إلا على النساء، في الوقت الذي تدعي حرصها عليهن؛ ستجد أنّ أشد الذكور تعصبا في قضايا «شرف» المرأة، وأكثرهم تشدقا في الحديث عن صونها وحمايتها، هم أولئك الذين يضربون زوجاتهم، ويحرمون شقيقاتهم من الميراث، ويحبسون فتياتهم في المنزل، ويجبروهن على القيام بدور الخادمة، ويمارسون تزويج القاصرات، وتعدد الزوجات، كما لو أنَّ الزوجة «طقم كنبايات» حان الوقت لتغييره!
تلك العقلية تتعامل مع جسد المرأة كما لو أنه «شيء»، أو «ملكية خاصة» (للذكور حصرا، وليس ملكا لصاحبته).. الكل يشتهيه بشدة، (لكنهم يخافونه في أعماقهم)، الكل يتحدث عنه بنهم (في الخفاء، وفي الغرف المغلقة)، ولكنهم يزدرونه بتعفف في العلن.. هؤلاء لا يرون من المرأة عقلها، فنها، أداءها.. يرونها فقط بشهواتهم المكبوتة.. ألم تلاحظوا أنّ وجود فتاة في فرقة «صول»، وهي تغني بحركات جريئة وعذبة، استفز جمهور الذكور، لدرجة لم يطيقوها.. فلو كانت الفرقة كلها من الرجال ربما ما اعترض أحد، أو بالتأكيد ستكون معارضتهم أقل بكثير.
ألم تلاحظوا أن حجة وزارة الثقافة كانت «ملابس الفنانات غير لائقة»، وأنّ سبب منع فرقة عشتار في النجاح، هو وجود فتاة بملابس اعتبروها غير لائقة.. علماً أن ملابس الفنانات في جميع الحالات المذكورة كانت محتشمة، وساترة. ولكن، يبدو أن العقلية الذكورية لا تريد ظهور المرأة إلا بصورة المرأة التابعة والمستضعفة، التي تستجدي عطف الناس، بصورة نمطية تكرس ذكورية المجتمع.. حتى إذا خرجت للعمل، فلا تخرج إلا إذا كانت مضطرة، أي فقيرة ليس بوسعها رفض شروط العمل المجحفة.
القيم والتقاليد والأخلاق مسائل نسبية، متغيرة، تختلف من مجتمع لآخر، وتختلف في نفس المجتمع من زمن لآخر، وتلك حقائق اجتماعية لا تقبل الجدال..
القيم الأصلية للمجتمع الفلسطيني تتقبل الاختلاط، والأعراس، والدبكات الشعبية المشتركة، ومشاركة المرأة في كافة مناحي الحياة، وتاريخنا الوطني والاجتماعي حافل بحضور مميز للمرأة.. وهذا كله من صميم التراث الشعبي، وبالنسبة لزي النساء، لو تفقدنا ألبومات الصور العائلية حتى نهاية السبعينيات (أي قبل الغزوة الوهابية) سنجد النساء بملابس لا تجرؤ فتيات اليوم على ارتدائها.. ولم يكن حينها أي ربط بين الأزياء والشرف.
لكن الثقافة «السلفية» الوافدة والطارئة، والتي تروج لها أحزاب الإسلام السياسي هي التي ترفض هذه المظاهر، وتدعي أنها دخيلة على المجتمع..
الفن، كما هو الأدب، حالة إبداعية محلقة، ولا يمكن له أن يكون فنا راقيا، أو أدبا رفيعا ما لم يكن سقف حريته السماء، وأي قيد أو شرط على الفن والأدب سيعيق نموهما، ويكبلهما، ويخنقهما..
هامش الحريات الثقافية في فلسطين يضيق شيئا فشيئا؛ ولا مجال للحديث هنا عن حرية التعبير التي خنقها قانون الجرائم الإلكترونية، ونكّلت بها الشرطة مرارا وتكرارا.
قبل ومع خوض معركة تحرير فلسطين، لنحرر عقولنا من الخرافة.