حــيرة واضطراب

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

هل حقاً فقدنا القدرة على الاندهاش؟ هل تبلدت مشاعرنا؟ ولم نعد نتعاطف مع بعضنا كما يجب؟ هل جفت أرواحنا، وتيبست قلوبنا، فلم نعد نعرف كيف نحب؟ ولا كيف نستشعر بجمال الطبيعة؟ أو نحس بدفق الحياة؟
في الأمس القريب كان الأهالي ينتظرون بشغف مسلسل السهرة، وينتظرون شهراً كاملاً لحضور برنامج «العلم والحياة»، ويتسمّر الآباء حول الراديو لسماع نشرة أخبار لندن، والأطفال يملؤون البيت فرحاً لحصولهم على دمية بلاستيكية، وخبر وفاة شخص ما يهز الحي بأكمله.. اليوم اختلف كل شيء.
لم نعد نتأثر لخبر سقوط شهيد، ويبدو أنّ كثرة الصور، وتكرارها جعل منه خبراً باهتاً، فصرنا بحاجة إلى خبر صاعق (مذبحة على الأقل)، حتى يسترعي الأمر انتباهنا.. ربما السبب في ذلك ضخامة الأحداث وكثرتها وتسارعها وتنوعها.. أو قدرة الإعلام على توجيه دفة اهتماماتنا، والتركيز على قضايا معينة وتغييب أخرى، وفقا لمصالح سياسية، أو لاعتبارات قوانين المنافسة.
لا أود هنا المقارنة بين زمنين، ولا إثارة الحنين إلى الماضي بنوع من النستالوجيا.. ولكن هي وقفة لتأمل معطيات عصرنا الراهن.
في وقتنا الحاضر تحيط بنا الميديا من كل جانب، ولا نجد مفراً من متابعتها.. لنبدأ مع نشرة أخبار الصباح: المستوطنون يقتحمون باحات الأقصى، استشهاد فتى على حاجز الجلمة، اعتقال عشرات الشبان في نابلس، قصف مبان سكنية في غزة.. تظاهرات غاضبة في بغداد، مسيرات ليلية في بيروت، الكوليرا تظهر مجدداً في صنعاء، الجيش السوري يحاصر إدلب، تفجيرات في الكاظمية، مقتل العشرات من قوات حفتر، انتخابات في تونس.
تتصفح الجريدة لمعرفة ما يدور من حولك: كوريا الشمالية تطلق صاروخاً باليستياً، الصين تفتتح طريق الحرير الجديد، اليابان تصدر النسخة الأحدث لروبوت يتكلم عشر لغات، البرازيل تنتخب رئيساً يمينياً، الكونغرس يستعد لعزل ترامب، هجمات عنصرية ضد المهاجرين المسلمين في ألمانيا، رئيس وزراء كندا يلتقط «سيلفي» مع المواطنين.
تفتح التلفاز في المساء، تترك المحطات الإخبارية، لتجد حلقة جديدة من «أرطغرل»، ومسلسلاً تركياً جديداً، وآخر مكسيكياً.. تقرر البحث عن فيلم مشوق يخرجك من الملل: فتجد عشرات الأفلام بين كوميدي، وآكشن، وتاريخي، وهندي، ورومانسي.
تغلق التلفاز، وتفتح حاسوبك، أو هاتفك الذكي؛ تبدأ بتصفح الإيميل، تلغي عشرات الرسائل التي لا معنى لها، يخيب أملك لعدم وجود أي رسالة من عزيز غائب، أو خبر يفرح قلبك.. تنتقل إلى فيسبوك؛ تهنئ من تصادف عيد ميلاده في ذلك اليوم، وتبارك لمن احتفل بتخرجه، توزع «اللايكات» على صور أصدقاء مبتسمين أكثرهم لم تلتقه يوماً، ثم تعزي أصدقاء آخرين فقدوا أحبة لهم، ربما تكتب تعليقاً هنا وهناك، أو تشارك «بوست» أعجبك، أو تعيد نشر حكمة قديمة. تواصل التصفح: «لايف» ساخر لعلاء أبو دياب، فيديو لجمال عمواسي وهو يعالج ضبعاً أطبق عليه فخ، وآخر للشيف بوراك، وهو يكشف الغطاء عن وليمة شهية، ثم مقطع من مسرحية لعادل إمام، ثم فيديو يذكر ثلاث خطوات للتخلص من الوزن الزائد، وخبر عن اكتشاف فاكهة استوائية لا تعيش إلا في غينيا تعالج السرطان خلال يومين.. ثم قصيدة لشاعر شاب يتغزل بارتشاف القهوة.. إلى أن تتداخل مشاعرك.
تقرأ مقالاً تحليلياً لحسن البطل، و»بوست» ناقداً لعماد الأصفر، ونصاً مدهشاً لزياد خداش، وخاطرة ذكية لأمير داود، وقصة عجيبة لعامر بدران، ومنشوراً ظريفاً لخالد سليم يتحدث فيه عن مزايا البامية، فتستعيد بعض توازنك.
وإذا كان يوم الجمعة ستجد عشرات التهاني بقدوم هذا اليوم المبارك، وأدعية ومواعظ ودعوات للصلاة على النبي، ثم يأتيك إعلان عن آلة تلف ورق الدوالي، ومفك يصل إلى أبعد زاوية، ومكنسة كهربائية مزودة بكاتم للصوت، إضافة إلى عشرات الصور: فتاة موديل، غروب الشمس، جسر معلق بين جبلين، فهد يلتهم غزالاً، سيارة دفع رباعي «مبنشرة».. يتخلل ذلك رسالة على الخاص من شخص قبلت صداقته للتو يسألك: ممكن نتعرف؟
تشعر أنك أُتخمت معرفة وحكمة، أو نلت قسطاً من المرح، أو الكآبة (أنت وحظك)، أو نال منك الحزن بسبب صورة، أو استفزك خبر فاستبد بك الغضب..
تتجه إلى الإنستغرام، وهناك تبدأ بتوزيع قلوب الحب على صور من تعرفه، ومن لا تعرفه.. أو إلى «تويتر» لتقرأ تغريدات المشاهير، وقصص حبهم العميق وطلاقهم السريع، أو عن فضائح مجلس النواب، وتغريدة لوزير عربي عن فساد حكومة غواتيمالا.. تنتقل إلى اليوتيوب؛ وهناك ستتعمق حيرتك: فيلم وثائقي يثبت نظرية التطور، وآخر يفندها.. دراسة بحثية تعدد فوائد الشاي الأخضر، وأخرى تقلل من أهميته.. دراسة تؤكد أن الأطعمة الجاهزة تسبب البدانة، وأخرى تنفي ذلك.. دراسة تكتشف العلاقة بين السكر والسرطان، وأخرى تنفي.. شيخ سلفي يحرم الموسيقى، وشيخ متنور يبيحها.. طبيب يمتدح الطب الشعبي، ويشرح قدرات عشبة الشيح العجيبة على الشفاء، وطبيب آخر يرد عليه معترضاً.. عالم أميركي يؤكد الوصول للقمر، وعالم روسي يؤكد استحالة ذلك، فيديوهات مضحكة، وأخرى حزينة.
متخصصو التنمية البشرية يسهلون عليك الأمر: ينصحونك بتنظيم وقتك، والاستيقاظ فجراً، والقيام بتمارين التنفس، وتخصيص ساعة للتأمل، وساعة للمشي الخفيف، وساعة للرياضة، وساعة للمطالعة، والنوم مبكراً.. وهذا كاف لحياة سعيدة هانئة. 
ستجد خبيراً لديه وصفة سحرية للإقلاع عن التدخين خلال ساعات. وبرنامجاً متخصصاً يعلمك اللغة اليونانية في ثلاثة أيام، وكريم يزيل التجاعيد خلال أسبوع، ويرجع عمرك عشر سنوات. وعشبة تزيد فحولتك، وتجدد شبابك.
تترك كل الميديا الرقمية، تقف أمام مكتبتك (إذا كان لديك مكتبة)، ستجد عشرات الكتب، في شتى المجالات، ورفاً كاملاً من الروايات تنتظر قراءتها.. بعد دقائق من الحيرة والتردد، تقرر أن تنام.. ستحتاج وقتاً طويلاً قبل أن يصفو ذهنك، وتتخلص من الأصوات المتداخلة، ونداءات عقلك الباطن، ومن صدى الأغاني، ووقع الأخبار، فتبدأ بالتفكير بهمومك الخاصة، والأقساط الشهرية، وحاجات البيت، والأولاد، والتخطيط للمستقبل، أو على الأقل لليوم التالي (وهذا قليلاً ما يحدث)، أو يؤنبك ضميرك على غلطة ارتكبتها مع صديق (وهذا نادراً ما يحدث).. إلى أن تغفو وقد هدك التعب..
للعقل قدرات محدودة على استيعاب كل هذا القدر الهائل من المعلومات، وللقلب قدرات أقل على تحمل كل هذي الأحزان، وأمام كل هذه التناقضات، قد تشعر بالحيرة، والتيه، وقد يصيبك الإحباط، وقد تتعب.. لكن، لا تفقد القدرة على الاندهاش.
الدهشة هي التي تجعل الحياة حلوة وممكنة..