لا تستخفّوا بقرار المدعية العامة لمحكمة لاهاي: بداية لما هو أشدّ

حجم الخط

بقلم: إيهود أولمرت*


يمكن القول، إن قرار المدعية العامة في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، فاتو بنسودا، التوصية بفتح تحقيق دولي ضد إسرائيل بشبهة قيام قادة سياسيين وعسكريين وكذلك مقاتلين بارتكاب جرائم حرب، يستند إلى قدر كبير من التضليل والتزوير، وكذلك إلى قدر معيّن من كراهية إسرائيل. وفي الوقت عينه، يُعتبر هذا القرار بمثابة مساعدة خارجية لرئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو يتيح له إمكان الاستمرار في محاولات جعل الجمهور الإسرائيلي العريض يلتف حوله لكونه، كما يروّج مؤيدوه، الزعيم الإسرائيلي الوحيد القادر على الدفاع عن هذا الجمهور في مواجهة المعادين للسامية.
غير أن القصة أكثر تعقيداً مما يتم تصويرها. فمنذ فترة طويلة تقف إسرائيل في مركز وعي الأسرة الدولية، وتُعرض بصفتها دولة محتلة ترفض إجراء مفاوضات لإنهاء الاحتلال وتواصل دوس ملايين الفلسطينيين الذين يفتقرون إلى حقوق الإنسان الأساسية. ولا شك في أن هذا العرض خطأ. وبصفتي آخر رئيس حكومة إسرائيلية أجرى مفاوضات جدية مع الفلسطينيين، وكنت على وشك التوصل إلى اتفاق إيجابي كان من شأنه أن يحدث انعطافاً تاريخياً في حياتنا وحياة جيراننا، يمكنني أن أؤكد أن المسؤولية الكاملة عن إحباط اتفاق السلام في ذلك الوقت تقع بالكامل على عاتق الفلسطينيين. وعلى الرغم من أن محمود عباس لم يرفض بصراحة الاقتراحات البعيدة المدى التي عرضتها عليه، فإنه لم يرد عليها بالإيجاب. ولذا تم تفويت فرصة تاريخية نادرة.
بعد أقوالي هذه، لا مهرب من الإقرار بأن إسرائيل كانت هي الجهة الرافضة والمستفزة والعدوانية على مدار السنوات العشر التي مرت منذ ذلك الوقت، وكان انعدام مرونتها هو السبب المركزي، ليس فقط لعدم نضوج عملية السلام إلى ما يشبه الاتفاق، إنما أيضاً لعدم انطلاق هذه العملية مرة أُخرى.
صحيح أن هناك حركة حماس وهناك «إرهاب». ولا شك في أن الفلسطينيين غير مستعدين لاتخاذ الخطوات السياسية البعيدة المدى التي يمكن أن تشكل أساساً لانطلاق مفاوضات ذات احتمالات نجاح كبيرة. لكن ماذا يجري عندنا؟ هل نحن نريد السلام؟ وهل كانت حكومة إسرائيل على مدار السنوات العشر الفائتة مستعدة لإبداء حد أدنى من المرونة والانفتاح والشجاعة بما يتيح إمكان الدفع قدماً باحتمالات السلام وإيجاد حل تاريخي للنزاع؟
في الماضي، كانت قدرة الأسرة الدولية، بما في ذلك الدول الأكثر صداقة وولاء لإسرائيل، في التأثير في أدائنا السياسي والعسكري والاقتصادي أكبر بكثير مما هي عليه الآن، وكنا نحن أكثر إصغاء لردات الفعل الحادة الصادرة عن دول مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها من الدول التي تقيم مع إسرائيل علاقات صداقة مستمرة ولا تتردّد في الوقوف إلى جانبها في الأوقات الصعبة. لكن في السنوات الأخيرة، منذ صعود دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية، باتت إسرائيل محصنة نسبياً أمام أي ضغط عسكري أو سياسي أو اقتصادي. ويقف ترامب كسور منيع في الدفاع عن السياسة المتهورة والجوفاء والتوسعية لإسرائيل، كما شهدنا في إبدائه التفهم لإعلان نتنياهو نيته ضم غور الأردن إلى إسرائيل، والتي تحركها مصالح شخصية وحزبية، وكذلك في اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، واعترافه بالسيادة الإسرائيلية في هضبة الجولان، وأخيراً في إعلان وزير خارجيته (مايك بومبيو) أن المستوطنات في «المناطق» لا تشكل خرقاً للقانون الدولي، وذلك بخلاف الموقف الذي عبّر عنه كل رؤساء الولايات المتحدة منذ سنة 1967.
ينبغي القول، إن ما يبدو في الظاهر بأنه أفضلية لإسرائيل لا يعدو كونه أكثر من وهم بصري. فالأسرة الدولية لم تسلّم بكل ما أقدمت عليه إدارة ترامب. وهي لم تسلّم ولا تسلّم ولن تتصالح مع سياسة الضم لتحالف نتنياهو – بينت – بن غفير (زعيم أتباع الحاخام مائير كهانا). وهي ستواصل البحث، وستجد الطرق لتوجيه ضربات إلى إسرائيل في أماكن حساسة أكثر وتكون أشد مساساً من قرار مجلس الأمن المتعلق بالاستيطان. وهنا علينا أن نتذكر أنه منذ 15 سنة، وفي إبان فترة حكومة أريئيل شارون، قرر الاتحاد الأوروبي تقليص حقوق التجارة الممنوحة لإسرائيل وفقاً للاتفاق مع أوروبا، وطولبت إسرائيل بأن تضع علامة على كل البضائع التي تنتَج في المناطق (المحتلة) ولم يُعترف بأنها جزء من دولة إسرائيل، كي لا تحظى بأي إعفاءات جمركية. وادّعى الأوروبيون أن اتفاق التجارة هو مع إسرائيل والمناطق الفلسطينية ليست جزءاً منها.
وليس من قبيل المبالغة رؤية أن القوى الأوروبية التي تحاول أن ترغم إسرائيل على التراجع عن سياسة الضم هي التي بادرت الآن إلى إجراء يمكن أن يفضي بنا إلى المثول أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، كمشتبه بهم بارتكاب جرائم حرب. وليس هذا فحسب، بل ستستمر الجهود التي تقوم بها حركة BDS في العالم أجمع. ومن شأن هذه الجهود أن تمس بإسرائيل في جبهة دولية واسعة. وبعد ذلك، يمكن أن يتم إلزام الإسرائيليين بالحصول على تأشيرات دخول إلى دول أوروبا. وحتى لو بدا مثل هذه الإجراءات بعيداً الآن، فإنها يمكن أن تهبط علينا بأسرع مما يعتقد كثيرون، وبالتأكيد في حال الاستمرار في انتهاج السياسة التي تعود بالفائدة على نتنياهو وعائلته، لا على دولة إسرائيل ومصالحها.
على الرغم من أنه لا يمكن تغيير الواقع بلمحة عين، ولا يمكن إقصاء كل مظاهر الكراهية والتلوّن ومعاداة السامية، وعلى الرغم من صعوبة الإيمان بقدرة مبادرة سلام إسرائيلية مختلفة وجديدة وجريئة على الوصول إلى تسوية سلمية حقيقية، فإنه لا بد من البدء بالسير في مسار يقترح طريقاً جديدة أكثر انضباطاً وتسامحاً من دون أن تهدد مصالحنا الأمنية بالخطر. لو كانت هناك الآن محادثات سلام جادة لما كانت أي جهة ستفكر بتقديم إسرائيل إلى محكمة الجنايات الدولية، ولما كانت دول، مثل الأردن ومصر وكذلك السعودية ودول شمال أفريقيا، انضمت إلى قرارات إدانة إسرائيل في شتى المحافل الدولية.
من أجل أن تتغير الأوضاع والمناخ في العالم نحن في حاجة إلى قيادة ترغب في السلام، قيادة تمتلك الشجاعة لاتخاذ خطوات تنطوي على تنازلات وانسحابات، ولتغيير سياسة العربدة التي باتت بمثابة ماركة مسجلة لنا. إن قرار المدعية العامة في محكمة لاهاي هو إشارة تحذير صارخة لا يجوز التغاضي عنها، وربما يكون بداية فقط لما هو أشدّ وأدهى.

عن «معاريف»
*رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق.