فتح في الخامسة والخمسين

عاطف أبو سيف.png
حجم الخط

عاطف أبو سيف

لـ"فتح" مكانة كبيرة في قلوب الفلسطينيين وبارزة في تاريخهم التحرري، كما يشكل تأسيسها وانطلاقتها بعد ذلك محطة فارقة في توجيه بوصلة الكفاح الفلسطيني.
واليوم تحتفل فتح بذكرى انطلاقتها الخامسة والخمسين وهي تتمتع بذات المكانة والأهمية مؤكدة المنجزات الكبيرة التي حققتها طوال تلك المسيرة من أجل أن تصل السفينة الفلسطينية إلى ميناء حقوقها الكاملة.
ثمة الكثير في حياة الشعوب الذي لا يمكن نسيانه حين يتم استعراض حكاية نشوء حركاتها الوطنية وصعودها من حقول النسيان الشائكة إلى عالم الحضور والتمثيل.
وحين يتعلق الأمر بفلسطين لا يمكن أن يتم الحديث عن فلسطين بعد النكبة وكيف كان يراد لشعبها أن يندثر ويتلاشى ثم صعد من رماد النكبة إلى جمر الثورة بلغة فتح، وكيف تحول اللاجئ الذي كان يراد له أن يذوب في المحيط الجديد الذي تم تهجيره إليه إلى مقاتل يحلم بوطن ويسعى إليه، كل هذا لا يمكن فهمه دون الوقوف مطولاً أمام نشوء فتح وتشكلها في وعي قادتها الآباء الأوائل ومن ثم ظهورها للعلن عبر تفجير عيلبون الشهير، الانفجار الأهم في وعي الفلسطينيين لأنه عنى انطلاق شرارة الثورة.
فتح تشكلت عبر النقاشات الكبيرة التي كانت تدور بين قادتها الكبار المؤسسين وشهدت تلك النقاشات الكثير من العصف والتأويل والتفسير والأسئلة كذلك حتى تقرر الموعد المقدس لإعلان صعود طائرة الفينيق الفلسطيني من رماده.
عمليات كثيرة قام بها قادة فتح دون أن يعلنوا عن تنظيمهم الجديد وقاتلوا دون أن يرفعوا لواء غير فلسطين حتى قرروا أن يطلقوا الحركة الأهم في التاريخ الوطني الحديث.
وبين التأسيس في نهاية الخمسينيات والانطلاقة في منتصف الستينيات ثمة الكثير الذي يحيل إلى عمق الوعي الفتحاوي الذي ميز المسيرة الفتحاوية الطويلة.
ربما في جوهر ذلك مقدرة فتح البسيطة والمذهلة في آن في التعبير عن الفلسطينيين ومقدرتها البسيطة والمذهلة في صوغ التطلعات الوطنية بعبارات بسيطة ولكن عبر أفعال عظيمة وملاحم قاهرة.
فتح عرفت الحاجات الأساسية للفلسطيني اللاجئ الذي صعقته النكبة وأرادت السطوة العربية أن تحوله إلى رماد من الماضي، فتح أدركت أن جوهر القصة ليس بالأفكار الكبيرة بل بضرورة الوجود المادي لهذا الفلسطيني الذي كاد يتحول إلى ملفات مهملة، فتح استوعبت الدرس الأهم أن الفلسطيني يجب ألا يتلاشى، أن ما حدث في 1948 يجب ألا يتكرر حتى لو فني الشعب واحداً تلو الآخر، أن شخصا ما يجب أن يواصل القتل حتى الرمق الأخير.
لذا فإن مراجعة أدبيات فتح، وهذا ما يجب على الفتحاويين أن يواظبوا عليه، يكشف عمق هذا الفهم الفتحاوي البسيط.
ليس أبسط مما كتب آباء فتح الأوائل وهم يتجاذبون الحوار بين غزة والقاهرة والكويت حين كان العمر ينتظر منهم تفجير المعجزة، ولا أروع من تلك الكلمات التي عبر عنها بيان انطلاقة فتح. وربما أيضاً، وهذا من اليقين، كان هذا سر بقاء فتح، السر العجيب في أن تظل التنظيم الأكبر فلسطينياً والأكثر مقدرة على تمثيل الفلسطينيين حتى حين تخسر الانتخابات العام 2006 فإنها لا تتراجع عن مكانتها الأولى. لأن فتح تستطيع أن تكون فلسطين ولا شيء آخر. فتح لم تحترف يوماً غير التعبير عن الهم والألم والأمل الفلسطيني لا شيء آخر.
لم تتخذ قبلة لها غير فلسطين، كل العواصم كانت بالنسبة لها سواء لأن ثمة عاصمة واحدة ووحيدة هي القدس. لا مكان سياسيا أقدس من هذه. وبهذا ظلت فتح البوابة الكبيرة التي ينتظر الفلسطينيون أن تمر عربات نصرهم عبرها.
وفتح لا يستقيم اسم فلسطين دونها، ولا تكتمل حكاية الكفاح الوطني دونها، ولا يمكن فهم تاريخ فلسطين الحديث دونها، وفتح التي تشكل درة تاج العمل الوطني، والحبر السرى للنضال الوطني، وكلمة السر لكل معارك الشعب الفلسطيني للتحرر من الاحتلال، وفتح التي هي اسم آخر من أسماء فلسطين، وكنية أخرى للكفاح والقتال من أجل الحرية، ومعادل ذاتي وموضوعي في ذات الآن للصمود والانتصار، وفتح التي هي كل شيء يمكن أن يقال في عشق فلسطين، وفي أحلام المهجرين الباحثين عن العودة المحققة لزاماً، وهي الشعاع البراق الذي يربط العين بالقدس حين تحدق في اللامتناهي تبحث عن شذا الآمال المرتقبة والطرق التي لم تسلك بعد في الوصول إلى مبتغى الروح ومنتهى الأنفس.
فتح مع كل شيء وقبله وبعده هي أيقونة البحث عن فلسطين وهي الحجر المقدس الذي لا يمكن المرور المستقيم في الدروب المضيّة إلى فلسطين دون قراءة تعاليمه. لذا ففي فتح كل ما يمكن أن يقال عن بحث الفلسطينيين عن فلسطين.
والأمر كذلك فإن فتح في الخامسة والخمسين بحاجة لمراجعات شاملة من أجل ضمان استمرار المسيرة خاصة في ظل ما تتعرض له القضية الوطنية من محاولات التفاف على المشروع التحرري بغية تقزيمه بمشاريع إقليمية وجهوية ومناطقية وانفصالية.
في قلب كل ذلك الاهتمام بمنظمة التحرير بوصفها الخيمة الكبيرة للشعب والكفاح الفلسطينيين وتفعيلها بشكل يضمن بقاءها رافعة النضال التحرري حتى الوصول إلى كامل الأهداف التي يناضل من أجلها الفلسطينيون.
إن هذه المراجعات يجب أن تكون ضمن النسق العام لتطوير الفعل الفتحاوي وتصويب مسيرة النضال اليومي والعام لأن استقامة حال فتح يعني استقامة الحال الفلسطيني، ولأن فتح هي صمام الأمام من أجل صون المستقبل وصون المنجزات.
لا يمكن قياس عمر الشعوب بالسنوات، لكن من المؤكد أن ما تعرض له الشعب الفلسطيني طوال العقود الماضية من نكبة ونكسة وحروب واعتداءات يجب ألا يمر بأي حال دون تصويب للأخطاء التاريخية الكبرى التي وقعت بحقه، وتصويب هذه الأخطاء هو تحقيق غايات الثورة الفلسطينية وفتح في القلب منها. مهمة عظيمة وصعبة ولكن ها قد مرت 55 عاماً والمسيرة مستمرة.