مآزق الحريري السياسية

عبير بشير.jpg
حجم الخط

عبير بشير

يواجه سعد الحريري قطوع ما بعد تكليف حسان دياب لرئاسة الحكومة اللبنانية، فيما يشبه «العزلة السياسية»، بعدما انقطعت به السبل وضاقت أمامه الخيارات.
هذه الصورة القاتمة تجيء خلافاً لما كانت عليه مرحلة ما بعد استقالة الحريري إثر اندلاع الانتفاضة الشعبية، والتي نجح الحريري نسبياً في إدارتها، مستخدماً تكتيكات سياسية، إلى حد أن هناك من تساءل عن سر هذه «الطاقة الإضافية» التي جرى استجرارها إلى بيت الوسط ؟ إلا أن الصدمة هي أن الحريري تعثر في الأمتار الأخيرة من الماراتون الحكومي، وبات بين ليلة وضحاها خارج السرايا الحكومي. وبدأ شركاؤه السياسيون ينفضون يده منهم: الرئيس ميشيل عون، وليد جنبلاط، رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي انزعج بداية من استقالة الحريري، ثم من إفراطه في المناورات التي كان يحاول عبرها استعادة رئاسة الحكومة بشروطه.
أما الصدمة الأكبر التي تلقاها الحريري فكانت من الحليف المفترض سمير جعجع، الذي سحب بساط الميثاقية من تحت قدمي الحريري، حارماً إياه من الغطاء المسيحي، وهو ما دفع تيار المستقبل لاتهام حزب القوات اللبنانية بأنه سلم لبنان لجبران باسيل والثنائي الشيعي. وهو ما يشي بتخلٍ سياسي عن سعد الحريري يتجاوز الحدود اللبنانية ليصل إلى الرياض وواشنطن، وربما باريس.
ولعل ما سُمي بانقلاب «الفجر» الذي نفذته القوات على الحريري، بعد تسميته قبيل سويعات من بدء الاستشارات النيابية، نكأ جروحاً قديمة لدى سعد الحريري، حين تخلى سمير جعجع عنه خلال أزمة استقالته في السعودية، وتحريض الرياض عليه.
فيما عادت العلاقة بين الرئيس ميشيل عون وسعد الحريري إلى ما قبل التسوية الرئاسية، حيث المواجهة المفتوحة، وبات كل منهما في حاجة إلى تحقيق انتصار على الآخر، لأنهما يخوضان هذه المواجهة السياسية على طريقة «يا قاتل يا مقتول». ففي حال نجاح العهد بتأليف حكومة برئاسة الرئيس المكلف حسان دياب فإن ذلك سيعني أن الحريري بات خارج السراي الحكومي، إلى أمد غير معلوم.
ولم يتوقف الرئيس عون عند معنى عدم تكليف سعد الحريري وانتقاله من الشريك إلى الخصومة والمواجهة، في مرحلة هو أحوج ما يكون فيها إلى تحالفات سياسية، وتحديداً مع المكون السني، لمواجهة استحقاقات الانتفاضة اللبنانية، والانهيار الاقتصادي.
لقد استسهل عون الاستغناء عن تحالفه مع الحريري لمجرد أن الحريري أصر على أن تكون حكومته تكنوقراط، ولا وجود بها للصهر باسيل. ولم يجد الرئيس عون وتياره، حرجاً في إبداء الشعور بالزهو، لتمكنه من كسر سعد الحريري، وإخراجه من السراي الحكومي.
ويريد عون أن يثبت أنه يستطيع تأليف حكومة بمعزل عن الحريري، وأن «معادلة عون في القصر الجمهوري والحريري في السراي الحكومي» لم تعد ضرورية، وأنه يستطيع أن يكمل عهده بدون الحريري.
وبالتالي، فإن عون لا يتحمل أي انكسار أمام الحريري، ولا الحريري بدوره يستطيع أن يتحمل أي انكسار أمام العهد، وبالتالي فإن الحكومة العتيدة تحولت حلبة المواجهة بينهما، فالحريري يضع كل ثقله للحؤول دون تأليف هذه الحكومة من خلال التشكيك السني بميثاقية تكليف دياب، ومن خلال تحريك الشارع السني. وفي المقابل، فإنّ العهد إذا نجح في تأليف هذه الحكومة إنما يكون قد سجل هدفاً كبيراً في شباك الحريري، ولذلك لن يكون الأمر مستغرباً إذا حصل دياب على تسهيلات كبرى لتأليف حكومته، إذ إن المطلوب بالنسبة الى العهد هو أن ينجح دياب لأن فشله سيؤدي الى عودة الحريري الى السراي الحكومي على حصان أبيض.
ويعتبر عون وباسيل أن الحريري خذلهما عندما قفز من مركب العهد بعد عاصفة 17 تشرين الأول، مستخدماً الاستقالة المباغتة، ثم محاولاً فرض شروطه للعودة إلى السرايا الحكومي بصفته منقذاً، وإصراره على إخراج باسيل من أي حكومة يترأسها.
 ولكن من يقف على شرفة «بيت الوسط» مقر الحريري يشاهد الأمور بنحو مغاير، ويرى ان التنازلات التي قدمها سعد الحريري لصنع التسوية الرئاسية مع عون وإنجاحها كلفته ثمناً باهظاً، وارتقت إلى أعلى مستويات التضحية، إذ إنه دعمَه لوصول عون لرئاسة الجمهورية خلافاً لمزاج طائفته، وأقطاب في تيار المستقبل، أدى إلى خسارته جزءاً مهماً من قاعدته الشعبية التي لم تتقبل خياراته السياسية، وبروز شخصيات في محيطه تحاول أن ترث زعامته السنية، متسلحة بدعم خليجي. وحصول تراجع حاد في زخم علاقته مع عمقه الإقليمي المتمثل في السعودية، وفي حين أبدى الحريري أقصى البراغماتية في مقاربة الملفات الحكومية مع جبران باسيل لمنع تفاقم الأزمات والمآزق الوطنية ولكن دون جدوى، ووجد الحريري نفسه يتعامل مع رئيسين، رئيس في الواجهة اسمه ميشيل عون، ورئيس فعلي في الظل اسمه جبران باسيل.
مصادر بارزة في تيار المستقبل تقول إن المنحى الذي تسلكه الأمور يوحي حتى الآن بأن الرئيس سعد الحريري يتجه نحو التموضع الكامل في المعارضة، وخصوصاً أن طبخة تكليف دياب تحمل بصمات واضحة لجبران باسيل، وكل المؤشرات والتسريبات تشي بأن الحكومة المقبلة ستكون حكومة باسيل، وستخضع إلى اعتباري المحاصَصة والمحاسيب، بعدما سربت أكثر من جهة بأن الصهر  باسيل حمل إلى حسان دياب لائحة بخمسين شخصاً، ليختار منها وزراءه.
انطلاقاً من ذلك، ليس من الممكن وضع تكليف دياب في سياق تسوية سياسية مستدامة، خصوصاً أن المناخ الإقليمي – الدولي الحالي لا يتيح الفرصة أمام تسويات من هذا النوع، وإن كانت ستستفيد حكومة دياب في حال تشكيلها، من نجاح الفرنسيين الساعين إلى حماية مصالحهم اللبنانية، في إقناع الأميركيين بالتهدئة، وما يتردد عن انتقال ملف لبنان في وزارة الخارجية الأميركية من ديفيد شينكر الصدامي، إلى ديفيد هيل التهدوي.
ثم إن نجاح دياب في مهمته الصعبة، وتمكنه من تشكيل حكومة، قد لا يكون سوى مرحلة انتقالية، نحو أحد أمرين، فإما أنها لتسوية جديدة هشة، وإما ستذهب بالبلاد إلى انفجار كامل، على وقع الانهيار الاقتصادي.
على الجهة المقابلة، تشي تحركات الحريري بإرباك شديد، ومرارة يشعر بها. ويتبدى مأزق الحريري من قلة الخيارات لديه وافتقاده للمبادرة في ظل أزمة معيشية كبيرة يعاني اللبنانيون منها، وباتوا يرغبون معها في حل قريب وتشكيل للحكومة يقيهم ما هو أسوأ، حتى لو كانت حكومة تقودها من خلف الكواليس قوى 8 آذار وبرئاسة حسان دياب.
إحباط الحريري هو مزدوج: فقد خرج من الحكم وحده، دون أن يخرج أركان السلطة الآخرون: ميشيل عون، ونبيه بري، وشعار الانتفاضة الشعبية «كلن يعني كلن» طبق عليه فقط.
وكذلك من دواعي أسف الحريري، أن الحراك الشعبي نفسه قد أصبح يقارب الأمور بمنحى مختلف مع تولي دياب. وباتت تُطرح أسئلة في شارع الحراك من نوع: لم لا نعطي دياب فرصة؟ وما الخطأ في تسوية مرحلية مع السلطة؟
لا يُحسد سعد الحريري على أزمته اليوم، هو يواجه الجميع، فاقداً لأي دعم جدي سوى من أنصاره الأوفياء في الشارع. ويشعر الحريري وتيار المستقبل، بأن الفترة المقبلة سيكون عنوانها استهداف الحريرية السياسية، وتحميلها تبعة الأزمة المالية والاقتصادية التي يشهدها لبنان، وأن عاصفة قادمة في هذا الاتجاه.
وهي ليست الأزمة الأولى لكنها الأكبر والأخطر على الحريرية السياسية، وتيار المستقبل الذي يعاني مشاكل بنيوية عميقة، ولا يبدو معها قادراً معها على مواجهة تحديات كبرى برزت لتحاصر «الشيخ سعد» من كل النواحي.