في وداع محمد شحرور

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

انتقل إلى جوار ربه الشهر الفائت الدكتور محمد شحرور، المفكر الإسلامي التنويري، الذي أثار بأفكاره الجديدة والمختلفة زوابع من ردود الفعل المتباينة والمتناقضة في حدتها.
ولد شحرور في دمشق، وتوفي في أبو ظبي، وبين ميلاده وموته عاش حياة حافلة بالعطاء، اشتغل بالهندسة، وأصدر العديد من الكتب والمقالات المثيرة للجدل، منها: «الإسلام والإيمان»، «نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي»، «تجفيف منابع الإرهاب».. ولعل كتابه «القرآن والكتاب، قراءة معاصرة» هو الأهم.
وصفه مؤيدوه بأنه من «أبرز رواد النهضة الفكرية الإسلامية»، واعتبروا أنه أنقذ أجيالاً من التعصب والأفكار الرجعية بتقديمه قراءات معاصرة للنصوص الدينية ترتكز على إعمال العقل.. أما المعترضون على فكره فاتهموه بالزندقة، والتخريف، وطالبوا بحظر كتبه، لأنها تشكل مساساً بـثوابت الدين.
الملحدون قالوا إن أطروحاته تتلخص في محاولة تطويع النصوص الدينية لتوائم مبادئ الفكر الماركسي.. لكنهم رفضوها، لأنها تعتمد على المقدس والغيبيات، الأمر الذي ترفضه المدرسة المادية.
بعض العلمانيين واللاأدريين اعتبروا أن ما يقوم به شحرور إنما هي محاولات لتجميل صورة الإسلام (بعد أن نالها التشويه)، وإضفاء نوع من الحداثة والعصرنة على نصوص ومفاهيم قديمة، غير مناسبة للعصر الحديث.
جمهور واسع من الإسلاميين التقليديين، والسلفيين رفضوا أفكار شحرور جملةً وتفصيلاً، واعتبروها خروجاً عن أصول الدين وثوابته، وصل الأمر عند بعضهم حد تكفيره، وبعضهم تشفّى بموته، بكلمات نابية.
أنا شخصياً مدين للمرحوم، فقد قرأت كتابه الأشهر عام 1992، فوجدتُ فيه فكراً جديداً ثورياً، يختلف عما كنت أعرفه عن الإسلام والقرآن.. وبذلك فتح لي دروباً جديدة في التفكير، وسّعت مداركي إلى حد ما، جعلتني أُقبل على أفكار محمد أركون، والجابري، ونصر أبو زيد، وصادق العظم، وجمال البنا، وخليل عبد الكريم، والصادق النيهوم، وفرج فودة، وغيرهم من المجددين التنويريين، لأقارب أفكارهم مع منظري الفكر الإسلامي التقليدي مثل محمد عمارة والغزالي وحسن الترابي والغنوشي، بالإضافة لمنظري أحزاب الإسلام السياسي، وضيوف الفضائيات والدعاة.. ولست هنا بصدد تقديم موقف شخصي من الطرفين، أو لترجيح كفة على أخرى، ما يعنيني هنا تقديم صورة موجزة عن أهم أفكار محمد شحرور.
دعا شحرور إلى التعامل المباشر مع النص الديني (القرآن والحديث)، دون الحاجة للاستعانة بالفقهاء والوسطاء من رجال الدين، أي بتشغيل العقل، واعتماد المناهج العلمية الحديثة بعيداً عن الأطر التقليدية في تفسير القرآن.
ودعا شحرور إلى عقلنة النص الإسلامي، أي إزالة هالة القداسة عنه، وفهمه فهماً تاريخياً موضوعياً، تمهيداً لتأويله بما يتناسب مع العصر، أي تغليب العقل على النقل، وإعادة الاعتبار للتفكير، بدلاً من التقليد، وإلى النقد بدلاً من التسليم.
ودعا أيضاً لتأسيس مجتمع مدني تحكمه القوانين المدنية (لا قوانين الشريعة) موضحاً أن أوروبا نهضت من عصور الظلام، وتقدمت بعد أن تخلصت من سلطة الكهنوت، وجعلت التدين مسألة فردية.
وقال أيضاً إن علاقة الفرد بالآخرين وبالمجتمع والدولة يجب أن تُبنى على احترام القوانين، وعلى القيم الأخلاقية، التي برأيه هي معطى بشري ونزعة إنسانية خالصة، لا يلعب الدين فيها دوراً سوى دور الدعم والتأييد.
كما شدد على ضرورة إحداث قطيعة معرفية مع الأحاديث والسنن باعتبارها تراثاً إنسانياً يقبل الصواب والخطأ، موضحاً أن ما قاله الرسول وما فعله (بصفته رسولاً) وله علاقة مباشرة بالتشريع واجب الطاعة، بينما ما قاله وما فعله (بصفته نبياً) مثل علاقاته بزوجاته، سلوكه الشخصي، مأكله، ملبسه.. غير واجبة الطاعة والتقليد، بل تمثل أسوةً حسنة، على أن تتناسب مع معطيات عصرنا.. مؤكداً أن جميع ما حرمه الله ورد في القرآن، مع توضيح العقوبة، وأن الله لم يسمح لأي مخلوق بما في ذلك النبي محمد بتحريم شيء، واعتباره من حدود الله، أي أنّ الله وضع حدوده بنفسه، وذكرها في كتابه الكريم، بينما ما قاله النبي في المسائل السياسية والدنيوية والحياتية هي وثائق تاريخية لتنظيم المجتمع في الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي فقط، ولا يمكن تطبيقها كلها في العصر الحالي، وبالتالي يمكن للمجتهد إعادة النظر بها.. أي باختصار رفض شحرور تقديس الأحاديث واعتمادها مصدراً للتشريع، وأن التشريع مصدره الوحيد هو القرآن.
في تفسيره للقرآن ينكر شحرور وجود الترادف في اللغة، فيقول: «إن العقل العلمي المعرفي لا يمكن أن يقبل الترادف»، أي أن نفس الكلمة تحمل معانيَ متعددة، يجب فهمها ضمن سياقها.
كما آمن بأن التشريع القرآني وضع الحدود الدنيا والقصوى في المسائل التي حددها؛ مثلاً الحد الأقصى لقذف المحصنات ثمانون جلدة، بينما يمكن للقاضي إقرار عقوبة أقل من ذلك حسب ما يرتئيه.. الحد الأدنى لحصة الأنثى في الميراث نصف حصة الذكر، بينما يمكن للمشرع رفعها لتصبح متساوية بين الجنسين.
وبحسب تأويلاته فإن القوامة يمكن أن تكون للمرأة، وأن الحجاب عرف اجتماعي ليس له علاقة بالدين الإسلامي، وأنّ الفوائد البنكية ليست ربا.
رأى شحرور أن القرآن اتبع أسلوب التدرج في الأحكام، وأنه وضع اللبنات الأساسية لتنظيم المجتمعات، وبالتالي يجب التعامل مع روح النص ومقاصده وليس مع النص نفسه حرفياً، فما بدأه الإسلام قبل ألف وأربعمائة سنة، يمكن للبشرية أن تهتدي به، ولكن بروح وعقلية جديدة.
لا تتسع المقالة لذكر المزيد من أفكار شحرور، ولا أدعو هنا إلى تبني أفكاره، أو رفضها.. فمسألة قبول كل أفكار شخص ما أو أية جهة معينة مسألة غير عقلانية، وهو نهج خاطئ أساساً؛ فكل منظومة فكرية فيها ما يمكن قبوله، وما يتوجب رفضه، وهي قابلة للأخذ والعطاء وللنقد والمراجعة.. أما الرفض الكلي أو القبول الكلي فهو نهج الغوغاء والسطحيين.
بغض النظر عن مواقفنا المتباينة؛ الراحل قدم أفكاراً ثورية، وخلخل الأرضية التي طالما وقف عليها الفقهاء، ونزع القداسة عن مسلمات كثيرة، وقدم صورة حضارية للإسلام، ودعانا للتفكير بعقولنا، وعدم تسليمها للآخرين، وألا نسمح لفقهاء عاشوا قبلنا بألف عام وأزيد أن يفكروا نيابةً عنا، وأن يحلوا لنا مشاكلنا.
تذكروا أن المجتمعات قديماً كفرت خيرة العلماء، واتهمتهم بالزندقة، مثل ابن سينا والرازي وابن المقفع والفارابي والراوندي.. وعُلماء كُثر نفعوا البشرية، منهم من قُتل ومن عُذِّب ومن أُحرقت كتبه، فقط لأنهم كانوا أحراراً بفكرهم.