العرب وإيران: الحوار بدل العبث

حجم الخط

بقلم: عوض عبد الفتاح

 

إلى جانب الويلات والمآسي، والآمال والوعود الكبيرة التي رافقت، ولا تزال، مسيرة الثورات العربية، التي اندلعت قبل تسعة أعوام، تشتعل حربٌ كلامية شديدة الاستقطاب والخطورة، قل نظيرها، بين الناس وداخل النخب. وازدادت وتيرة هذه "الحرب " بعد وصولها الى ما يعرف بمعسكر الممانعة، إذ فسرت الثورات بأنها مؤامرة على من يقاوم إسرائيل.

وتعمق الاستقطاب في الرأي العام أكثر، بعد أن تدخلت سياسيًا وعسكريًا قوى أجنبية إمبريالية، غربية وشرقية (أميركا وروسيا)، وقوى خليجية، وأخرى إسلامية إقليمية (إيران وتركيا)، لتدور على الأرض السورية مواجهة وحشية، قلما شهدها التاريخ الحديث، على أنقاض الثورة السورية الجبارة، التي بدأت سلمية واستمرت على هذا النحو لحوالي ستة أشهر.

مع إقدام الرئيس الأميركي، التاجر الأهوج، دونالد ترامب، على اغتيال القائد العسكري الإيراني، قاسم سليماني، في العراق، تفجرت مجددًا "الحرب" بين الناس، حول شخصية سليماني وعلاقته بما تمر به منطقة الشام، إلى حد اللامعقول والعبثية. وما هو أشد إيلامًا، هو حالة الاستقطاب والتخوين المتبادل التي اجتاحت الساحة الفلسطينية. وقد يذهب المرء الى التساؤل، هل انخراطنا في هذه "الحرب" بهذا المستوى الهابط، هو انعكاس لتأثر القضية الفلسطينية بتطورات المنطقة، وببعض اللاعبين الإقليميين الذين يتصرفون نيابة عنا، وباسم قضيتنا، وغياب مشروع وطني فلسطيني، ومشروع عربي نهضوي تحرري؟ أم تعبير لا واع، عن حالة عصابية إزاء فشلنا في رتق الشرخ الغائر في جسمنا السياسي، وعجزنا عن استنهاض مقاومة حقيقية للمشروع الصهيوني على أرض فلسطين؟

ليس الصراع بين أميركا وإيران، ولا بين إيران وإسرائيل، مفتعلًا أو مسرحية، بل هو حقيقي. وليس صحيحًا التقليل من شأن الدعم الذي قدمته إيران للمقاومة اللبنانية، التي أخرجت المحتل الصهيوني من أرض عربية بلا قيد أو شرط عام 2000. وليس عادلا مساواة الوجود الأميركي في الأرض العربية بالوجود الإيراني. فالأول - الأميركي ليس جزءًا من المنطقة، إمبريالي وعدواني، وأحد أهم أهداف وجوده واستمرار عدوانيته، هو الحفاظ على أمن القاعدة الاستعمارية في قلب العالم العربي، إسرائيل. وإن اغتيال سليماني من قبل إدارة التاجر ترامب، هو عمل أحمق ونذل، ويجسد ليس بلطجة هذه الإدارة، بل يجسد تاريخا طويلا من القتل والاغتيالات والانقلابات، للحفاظ على مصالح الأوليغارشيا (أوليكارخيا) التي تدير الإمبراطورية الأميركية، ومصالح نظام الأبارتهايد الكولونيالي الصهيوني. ل

م تقتله أميركا تعاطفا مع مئات آلاف السوريين أو العراقيين بسبب دوره في اخماد ثوراتهم، وبمشاركة قوى عربية رجعية وأجنبية أخرى، وما نتج عن ذلك من ويلات تفوق الخيال، بل خدمة لإسرائيل ولمصالح الإمبراطورية الأميركية الجشعة.

لكن في الوقت ذاته، ليست دوافع نفور غالبية الشعب العراقي والشعوب العربية من إيران، مذهبية أو عنصرية كما يروج البعض. وإذا كان هذا الأمر قبل الانتفاضة العراقية الأخيرة مشكوكا فيه، فمضامين وشعارات هذه الانتفاضة السلمية، أكدت أن النفور هو لأسباب وجيهة أخرى، تتمثل في كون إيران جزءا من الحكم في العراق، وبالتالي هي تتحمل قسطا من المسؤولية عن واقع الناس المعيشي والسياسي، والمسؤولية عن قمع هذه الانتفاضة.

إنّ غالبية المنتفضين ينتمون إلى الطائفة العربية الشيعية العراقية، ولا ينتمون لأيٍ من الأحزاب التي تدير الدولة العراقية منذ الغزو الأميركي عام 2003. ويتقاسم الحكم في العراق الأميركان والإيرانيون، وتطورت تفاهمات ضمنية بين الدولتين العدوّتين على حدود كل منهما. وهو حكم طائفي أسسه الأميركان، وأشرفوا على وضع دستوره التقسيمي وعلى حساب هوية العراق الوطنية.

بعد تأسيس الحكم المشترك، بين حلفاء أميركا وإيران، ومنذ عام 2011، أي مع انطلاق الانتفاضات العربية، شهد العراق عدة حراكات شعبية عارمة، وكانت قاعدتها في الأساس من العرب السنة الذين شعروا بالظلم الكبير، تحت النظام الذي تأسس تحت إشراف الاحتلال الأميركي والنفوذ الإيراني.

وجرى قمع هذه الاحتجاجات بوحشية دون الاستجابة لأي من مطالب الناس. تصاعد الفساد والنهب وسوء الإدارة. وكان تنظيم "داعش" الهمجي، الذي استثمر مظالم الشعب المتراكمة، لتبني قاعدة شعبية في مناطق العرب السنة، شنّ هجومًا على الجيش العراقي في الموصل عام 2014، فدحره بصورة مهينة. وحتى اليوم لم تجرِ أي محاسبة للمسؤولين في الحكم العراقي عن هذه الهزيمة النكراء، ولا الأسباب التي أدت بمواطنين من العرب السنة في منطقة الموصل إلى الانضمام الى صفوف "داعش".

لم يكن "الحشد الشعبي" الموالي لإيران، ولا الجيش العراقي الرسمي الذي حسم المعركة ضد هذا التنظيم المتوحش عام 2017، بل طيران التحالف الأميركي الغربي، الذي أباد المدينة إبادة كاملة وهجر جزءًا كبيرا من سكانها العرب السنة إلى الصحراء، نساءً وأطفالا.

ليست المشكلة مع إيران، في ارتباطها في القضية الفلسطينية، إذ أن هذا الأمر يحسب لها، منذ انتصار الثورة الإيرانية، إنما المشكلة في ثلاثة أمور؛ الأول، يكمن في مشروعها التوسعي في المنطقة العربية المحيطة بها، ومجاهرة بعض قادتها بذلك. الأمر الثاني، وقوفها مع الثورة المضادة والتعامل مع الثورات العربية من منظار جيوسياسي يعتمد نظرية المؤامرة، وهو نفس تنظيرات الأنظمة الاستبدادية. الأمر الثالث، هو التعامل مع القضية الفلسطينية كقضية أيديولوجية دينية، وليس كقضية تحرر شعب وتحرر إنسان، وهذا ينسحب على جميع الأنظمة العربية، التي حولت القومية العربية من قضية تحرر وطني واجتماعي لبناء وطن عربي حر، إلى أيديولوجية قومية متكلسة تبطش بالمعارضين، وتعذبهم شتى أنواع العذاب، والتهميش والاحتواء والتدجين، حتى لو كانوا من قادة أو كوادر الحزب القومي الحاكم.

افترض الثوريون العرب والناس عامة، أن تصطف إيران الثورة إلى جانب ثورات الشعوب العربية ضد الاستبداد والفساد والتبعية، لأن المقاومة الحقيقية لا تكتمل من دون الناس وإنصافهم.

لقد صبرت الشعوب العربية عقودًا طويلة تحت نير القهر والاستبداد والتعذيب والحرمان، بحجة المعركة مع إسرائيل، وخدرت عقول أوساط واسعة منها تحت هذا الشعار، وكذلك أوساط واسعة من النخب التي امتنعت عن النقد، بل مارست التخوين باسم الأنظمة ضد كل من ينتقد. وحين استعصى التغيير من الداخل، انفجرت الشعوب مطالبة بحقها في الحياة الحرة الكريمة، وبحقها في المشاركة في إدارة المعركة ضد الاستعمار الصهيوني بطريقة مختلفة. ولكن لم يطل هذه الشعوب الثائرة من هذه الأنظمة وأبواقها، سوى القتل والسحق والتخوين.

هل يعقل أن تصبح شعوبًا كاملة خائنة، لأنها تطالب بحقها في العيش وباستعادة دولها وأوطانها؟

كل ذلك يستدعي مراجعة طريقة تعاملنا مع الوقائع وكيفية فهمها، وكيفية إدارة الحوار بيننا. إن الدعوة إلى حوار عربي - إيراني، على الأقل بين القوى المناهضة للصهيونية والإمبريالية الأميركية والأنظمة المرتبطة بها، المنقسمة على نفسها والمتحاربة بوحشية، هو أولى من مواصلة حرب داحس والغبراء، ومن الانخراط في تعميق تغييب الوعي، وحجب المعرفة.

هذا الحوار يجب أن يقوم على الربط بين التحرر الوطني والتحرر الديمقراطي، وأن يكون الإنسان في المركز، ولا يجوز أن ندوسه ونسحقه تحت جنازير الدبابات، وكأنه حجرٌ في الطريق إلى القدس.

عن "عرب ٤٨"