وأخيراً، صرخت «ميلاد» صرختها الأولى معلنةً أن إبصارها النور جزء من عملية مواجهة صفقة القرن. «وميلاد» لمن لا يعرفها؛ جاءت الى الدنيا نتيجة تهريب نطفة والدها «وليد دقة» المعتقل منذ أربعة وثلاثين عاماً، لتحملها الوالدة «سناء» في رحمها بلا دنس. سناء ووليد حبيبان إلى الأبد، سيسجل التاريخ أن «ميلاد» قد كسرت قواعد ونظم الاحتلال، حيث أتاحت لقاء الحبيب حبيبته في مشهد لا يكون فيه أحدهما شهيداً أو شهيدة، وقدمت نموذجاً فردياً جديداً للأسرى في ديمومة المقاومة وحكايات كسر القيود.
أبناء النطف الفلسطينيون، سيذكرهم التاريخ كأحد أشكال مقاومة المشروع الصهيوني وأساليبه القادمة من أُطر العنصرية وعمليات التطهير العرقي للفلسطينيين واقتلاع شعب وتهجيره من أرضه وإحلال شعب آخر مكانه. لقد أرقت خصوبة الفلسطينيين نوم غولدا مائير رئيسة وزراء الاحتلال في حرب عام 1967 وغيرها من الإسرائيليين، رعباً من صرخة أرحام الأمهات وتقديمهن نشيد بدايات الحياة، قلقاً ورعباً مستداماً موروثاً من متلازمة المرض الديموغرافي من أن يتفوق فيه أعداد أبناء اسماعيل على أعداد أبناء يعقوب.
أهلاً بكِ «ميلاد» إلى الحياة، ستنضمين إلى أربعة وستين طفلاً من أبناء النطف المهربة من سجون الاحتلال، قام بافتتاحها الطفل مهند ابن الأسير عمار الزبن في عام 2012 المحكوم بالسجن المؤبد 27 مرة كوسيلة للتغلب على قيود السجّان وتحقيق الرغبة في إنجاب الأطفال، بعد إجراء استطلاع بين الأسرى في أحد أقسام سجن «هداريم» الذي يضم مائة وعشرين أسيراً من ذوى الأحكام العالية تبين أن 65% من المتزوجين ممن لم ينجبوا قبل الاعتقال، يؤيدون الإنجاب وهم داخله. لسان حالهم أن تهريب نُطَف الأسرى مقاومة وتحد للمشروع الصهيوني وإحباطه. إعلان إنساني عن استمرار النضال من أجل الحياة بكافة الأشكال والوسائل.. عدا ذلك، فقد كانت الحاجة دائماً أماً شرعية للاختراع، ولطالما كان الأسرى الفلسطينيون من يتصدى ويواجه سياسات إدارة السجون وممارستها العنصرية، ومارست التمييز الصارخ في منح حق الخلوة التي حَظي بها على سبيل المثال «ايغال عمير»، قاتل «رابين»، بما منحه ذرية ممتدة، وبين المحاصرين بالعزل والأصفاد والجدران.
وللحق، فإن الأسير وليد دقة ابن باقة الغربية يبدو مختلفاً عن غيره، ولكل أسير مزاياه وخصوصية رؤيوية، فوليد حاول تحطيم جدران السجن عن طريق الكتابة، فهو من كتب دراسة «صهر الوعي في إعادة تعريف التعذيب» التي قال فيها «إن قمع السجون الاسرائيلية لا يشبه مثيله المسجل في أدبيات السجون في العالم، فالممارسات لا تستهدف الجسد، وإنما المستهدف هو الروح والعقل»، إنه الرجل الذي يستقبل طفله الأول في التاسعة والخمسين من عمره.
سناء سلامة كذلك ليست كغيرها من النساء، حيث تعرفت على وليد في إحدى زياراتها للسجن وارتبطت به بعلاقة حب قبل أن يُعقد قرانهما في نهاية التسعينات خلف القضبان. ارتضت سناء بوليد حبيباً وزوجاً مع وقف التنفيذ، صبرت وتحملت وأخلصت له وقبلت اقتراحه بالحمل عن طريق النطفة المهربة، لتصبح أماً في الخمسين من عمرها.
تابع وليد مع سناء ظروف الحمل وانتظرا معا ميلاد «ميلاد»، الاسم الذي اختاراه معاً للقادم الصغير بغض النظر عن جنسه، اختارا اسماً مصنوعاً من أمل مجهول في المستقبل. خلال انتظار ميلاد الصغير، كتب وليد لها عشرات الرسائل واعداً إياها باللقاء بعد خمس سنوات، ما تبقى من الحكم، لتمدد إدارة السجون مدة حكمه سنتين إضافيتين بهدف زيادة عذابه وتأخير لقائه بابنته وتنفيذ ما وعدها به في رسائله الموجهة لها، تمديد الحكم لوليد عقوبة له على تهريب نطفه، مرجعاً سياسة كي الوعي وصهره إلى السجان.
في كل الأحوال، لن يزيد إطالة مدة الاعتقال أن الهدف قد تحقق، وأن النطفة المهربة قد أحبطت خطط الاحتلال في منع بذرة وليد عن التفتح والانطلاق، وإطلاق عجائز العائلة زغرودة طويلة تردد صداها في أرجاء فلسطين تخبِّر عن قدوم طفلة محاطة بالتمائم والمعجزات.
النطف في فلسطين أضحت أحد الأسلحة الخطيرة، سيدرجها الاحتلال كأحد أهم المواد الممنوع إخراجها وتداولها في السجن، سيعاقِب منتجها وحاملها ومستخدمها بالعقاب المُشدَّد، وتوظف عيونها لمعرفة تفاصيل العملية الفدائية، سيوجه للمتهمين تهمة إهانة الدولة التي لا تُقهر. سترفع إدارة ومصلحة السجون مستوى الخطر إلى اللون الأحمر، وتعتبر أن سابقة تخصيب امرأة يعادل في خطورته تخصيب اليورانيوم، لأن مفعول سياسة «كيّ الوعي» قد وصل الى نهاية القوة، في اللحظة التي استوفى بها الضعف نهايته.