إجماع إسرائيلي جديد: حل "الدولة ونصف الدولة"!

حجم الخط

بقلم: د. بني بورات*


استجلب عرض خطة «صفقة القرن» جملة من الفرضيات والتخمينات بشأن كيفية تأثيرها في حياتنا كإسرائيليين في المدى القريب. هل ستعزز «حزب بيبي» أم «حزب فقط ليس بيبي»؟ وهل سيجري في إثرها ضم منطقة شمال الأغوار حتى قبل الانتخابات، أم بعدها فقط؟ هل سترفضها السلطة الفلسطينية رفضاً كلياً قاطعاً أم ستجد فيها صيغة كافية الضبابية لحفظ ما تبقى من علاقاتها مع الإدارة الأميركية؟
لكن الأكثر أهمية، بكثير، هي الإسقاطات المحتملة لهذه الخطة على حياتنا في المدى البعيد. ثمة من يقول إنها مجرد خدعة، ألعوبة انتخابية، اليوم هنا، وغداً ستتلاشى كالدخان. وثمة آخرون يعتقدون أن الخطة راسخة وقابلة للتطبيق، وأن الولايات المتحدة، بالتعاون مع الدول العربية المعتدلة، سوف تنجح في دفعها إلى الأمام في الواقع المركّب السائد في الشرق الأوسط. وأياً تكن الحال، فثمة أثر واحد مباشر للخطة، على الأقل، قد تحقق للمدى البعيد بعد عرضها وجعل الوضع الإسرائيلي مختلفاً بصورة جوهرية عمّا سبق: خطة ترامب وضعت نهاية للجدل الحاد والقاسي الذي قسّم المجتمع الإسرائيلي على مدى العقود الأخيرة بين اليمين واليسار بشأن مستقبل «يهودا» و»السامرة».
خلال العقود التي تلت حرب «الأيام الستة» انقسم الجمهور الإسرائيلي وتوزع بين رؤيتين متناقضتين. في الجانب الأول، رؤية الدولتين ـ دولة يهودية وإلى جانبها دولة فلسطينية؛ وفي الجانب الثاني، رؤية الدولة الواحدة ـ «أرض إسرائيل الكاملة». إنهما رؤيتان تنفي إحداهما الأُخرى على نحو استوجب الحسم القاطع فيما بينهما. ومن هنا، فقد استقر الحد الفاصل في السياسة الإسرائيلية عند خط الكسر ما بين اليمين واليسار، بين مؤيدي «أرض إسرائيل الكاملة» ومؤيدي اتفاقيات أوسلو. كل واحدة من الخطط السياسية التي عُرِضت خلال هذه العقود كانت مرشحة للقبول الفوري الحماسي من طرف أحد المعسكرين، في مقابل الرفض المطلق من جانب المعسكر الآخر.
نجحت خطة ترامب في تحقيق إجماع الأغلبية الإسرائيلية لأول مرة. فقد محت الفوارق بين «الليكود» و»أزرق أبيض»، اللذين اتفقا على أن هذه الخطة هي المسار المرغوب فيه. لأول مرة، حدث توافُق فعلي بين القسم الأكبر من الأحزاب الصهيونية الكبيرة على الخطوط العريضة العامة لمستقبل «المناطق». مثل هذا التوافق لم يكن قد تحقق من قبل في إسرائيل منذ أن بدأ النقاش بشأن مستقبل «يهودا» و»السامرة». واتضح الآن أن الأغلبية الإسرائيلية ترفض كلا الرؤيتين ـ رؤية الدولتين ورؤية الدولة الواحدة، وتتبنى ـ بدلاً منهما ـ الرؤية التي يمكن تسميتها بـ»رؤية الدولة ونصف الدولة»؛ أي دولة يهودية تضم القدس الكاملة، وتجمعات المستوطنات اليهودية في «يهودا» و»السامرة»، والمناطق الاستراتيجية ذات الأهمية الأمنية، وإلى جانبها كيان فلسطيني هو أقل من دولة، يشمل أجزاء مقلصة من «يهودا» و»السامرة» وله صلاحيات محدودة تماماً. ومن الواضح أن ثمة مجموعات في الهوامش، من اليمين ومن اليسار، ستبقى على رفضها لهذا المسار، وستواصل التمسك بواحدة من الرؤيتين السابقتين، لكن يبدو أن الأغلبية الإسرائيلية قد شقت لنفسها طريقاً جديداً بينهما.
من الصعب المبالغة في مدى ما لهذا التوافق الإسرائيلي الداخلي من أهمية دراماتيكية على مستقبلنا. وحتى من غير المخاطرة في التكهن بالآثار القصيرة المدى لهذا التوافق في فترة الانتخابات البرلمانية الحالية، إلّا إن الأمر قد يؤدي، في المدى البعيد، إلى إعادة ترسيم معالم السياسة الإسرائيلية، وبصورة خاصة توجيه الجهود لعمل أكثر فاعلية في القضايا المدنية التي جرى إهمالها حيال السجال السياسي ـ الأمني الأبدي.
عندما تستبطن الحلبة السياسية ـ الحزبية موافقة الأغلبية الإسرائيلية على «رؤية الدولة ونصف الدولة»، سيكون في مقدورنا التقدم نحو عقد تحالفات وائتلافات جديدة لا تصرف طاقاتها على أسئلة وقضايا الأمس، مثل اتفاقية أوسلو، بين مؤيد ومعارض. إنها فرصة ثمينة أتيحت للمجتمع الإسرائيلي للتوقف عن إنهاك نفسه بنقاشات حول «عملية سلام» من التسعينيات والعودة إلى مواجهة التحديات المدنية العميقة التي جرى إهمالها طوال سنوات عديدة، مثل دمج اليهود الحريديم (المتشددون دينياً) في سوق العمل، وتحسين وضع الاقتصاد الإسرائيلي، وإعادة بناء روح الجماعة الإسرائيلية من جديد.

عن «واي نت»
* أستاذ في كلية الحقوق في الجامعة العبرية في القدس.