بين صفقة القرن والسلام الاقتصادي

د.عقل أبو قرع.jpg
حجم الخط

عقل أبو قرع

رغم أن الزخم الذي رافق الإعلان عن صفقة القرن قد تركز على الجانب السياسي السيادي والتي تمثله الخارطة ممزقة التواصل للدولة الفلسطينية المقترحة، ألا أن ربط هذا الإعلان والتركيز عليه وبالأخص من الجانبين الأميركي والإسرائيلي بالجانب الاقتصادي والتي تمثله الـ 50 مليار دولار، كان بارزا وواضحا، وحسب الأنباء والتحليلات والترويج، فإن الهدف هو تحسين حياة الفلسطينيين من خلال حزمة من الخطوات، الصغيرة والمتوسطة وربما الكبيرة، من مانحين عرب وأجانب، سواء من خلال منح وقروض، واستثمارات للقطاع الخاص، وبالأخص خطوات اقتصادية لها علاقة بحياة الناس، وتصب في مجالات البطالة والتشغيل والتصاريح وربما بعض المشاريع هنا او هناك، وبالتحديد فيما بات يعرف بتحسينات على المعابر والتنقل والتصدير وما الى ذلك من أمور او مواضيع اعتاد عليها الناس في الماضي، وبالأخص حين كان نتنياهو يتحدث عن مشاريع أو عن اقتراحات السلام وربطها بشكل مباشر بالجانب الاقتصادي. 
ومن الواضح ان هذه الخطوات تندرج تحت ما بات يعرف بـ"السلام الاقتصادي"، الذي هو ان جاز التعبير مرادف للجانب السياسي "لصفقة القرن"، وبالطبع فإن الهدف من عقد مؤتمر البحرين قبل فترة كان جمع المبالغ، لتنفيذ مشاريع، كبيرة ولها صدى او بريق، تساهم في زيادة الناتج الإجمالي السنوي وبالتالي تضخ النشاط في الاقتصاد الفلسطيني الضعيف وغير المستدام، والهدف الأكبر والاهم هو تحريك الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الراكدة، في ظل الجمود السياسي الحالي، وعدم قبول ما تحويه "صفقة القرن"، وعدم وجود آفاق او انفراجات في المدى المنظور او المتوسط.
وقبل حوالي عدة سنوات، كثر الحديث والنقد والتحليل والكتابة عما كان يعرف في ذلك الوقت بـ"خطة كيري الاقتصادية"، نسبة الى وزير الخارجية الأميركي في ذلك الوقت، وذكرت الأنباء في حينها ان الخطة تهدف الى جمع اكثر من أربعة مليارات من الدولارات، من الدول ومن الهيئات التمويلية ومن المستثمرين ومن القطاع الخاص ومن شركاته وامتداداته، والاستثمار في مشاريع كبيرة استراتيجية، وتشغيل الآلاف من الخريجين الفلسطينيين، أي من الأيادي المتعلمة والمدربة، وتحقيق النمو الاقتصادي، والبناء والتنمية والرفاه وما يمكن ان يتبع ذلك، وبالتالي التناسي وربما مؤقتا لمطالب أساسية سياسية حول الأرض والاستيطان، من الصعب الخوض فيها او نقاشها في ذلك الوقت.  
وفي ظل عودة الحديث هذه الأيام عن مفهوم وخطوات لها علاقة بـ"السلام الاقتصادي" فإنه لا يوجد جدال بأن الاستقرار او الهدوء او توفر المقومات، والاهم الظروف أو الحلول السياسية، هي من اهم ضمانات او حوافز تشجيع الاستثمار، وبالأخص الاستثمار من رجال الأعمال من القطاع الخاص، أي من الشركات وحاملي الأسهم ورأس المال الخاص الذي يهدف في المحصلة الى الربح، والذي هو الأساس لأي استثمار متواصل او مستدام أو نمو اقتصادي حقيقي، والذي هو المؤشر على الاستقرار وتوفر المقومات والبنى التحتية، وتوفر القوانين والحوافز والتشريعات والنزاهة، والاهم توفر الأفق السياسي، أي ان الاستقرار او الأمل باستقرار سياسي هو الذي يجر رأس المال الخاص والمال العام أي من الدول او الهيئات الاقتصادية الدولية، للعمل وللاستثمار، وربما هذا ما حدث خلال السنوات التي تلت اتفاق أوسلو وبداية عمل السلطة الفلسطينية، وما رافق ذلك في ذلك الوقت من أمل ومن تفاؤل بالتنمية والبناء وما الى ذلك.
ومن المعروف ان الأوضاع الفلسطينية الاقتصادية صعبة وان الديون المتراكمة على الخزينة العامة او العجز المتراكم في الميزانية يصل الى حوالي أربعة مليارات دولار، ولا يجادل احد بحاجة الناس، وبالأخص الشباب، الذي يشكل النسبة الأكبر من المجتمع الفلسطيني، وبالأخص الخريجين للعمل، خاصة ان نسبة البطالة في بلادنا تصل الى اكثر من 25%، وان نسبة الفقر ترتفع أيضا، وبالتالي هناك الحاجة الى توفر العمل للعيش بكرامة ولبناء المستقبل، ولا يجادل احد أننا بحاجة الى الكثير من المشاريع، وبالأخص المشاريع ذات البعد الاستراتيجي، أي الطويل المدى، او المستدام، مثل مشاريع البنية التحتية، والمصانع والمطارات، ومشاريع السياحة، والتصنيع الزراعي، ومشاريع التكنولوجيا والمياه، وكل ذلك مهم لأي بلد، وبالأخص لبلاد مثل بلادنا.
ومن المعروف ان مصادر الدخل الفلسطينية الحالية محدودة او مقيدة، وان توقعات الميزانية التي كانت تعتمد على جزء من أموال المساعدات الخارجية بدأت بالتراجع وربما بالتلاشي في المستقبل القريب، ومعروف ان المساعدات الخارجية ترتبط بالأوضاع السياسية، او بالآفاق او المسار السياسي، وهي ترتبط كذلك بالأهداف او الشروط او المصالح السياسية للمانحين من دول ومن منظمات، ومن ضمن ذلك الولايات المتحدة التي قطعت المساعدات بالكامل والتي تربطها الآن بصفقة القرن والتي هي بحد ذاتها مساعدات من هنا وهناك.
وإذ لا ينكر احد أهمية الاقتصاد لتوفير العمل او لإرساء دعائم البنية التحتية او حتى للحصول على البضائع بالجودة والسعر المناسب للناس، ولا ينكر احد ترابط الاقتصاد مع السياسة ومع الثقافة ومع التعليم ومع مجالات الحياة الأخرى، ولا ينكر احد حاجة الآلاف من الموظفين لراتب آخر الشهر لتوفير مستلزمات الحياة اليومية ولدفع القروض للبنوك وللتفكير او للتخطيط للمستقبل، ولكن ومن خلال التجارب والخبرات القريبة والبعيدة، لا يمكن ان يصبح الاقتصاد هو العنوان او هو المحرك او الغطاء للادعاء بوجود تقدم او بناء او تنمية، او هو المؤشر للقبول بواقع او للحفاظ عليه، او هو الهم الرئيسي سواء للحكومة او للناس، خاصة في ظل الحديث عن قضايا ترتبط بالحقوق الإنسانية والكرامة والمعاناة والمستقبل.
وبالتالي، فإن الغطاء الاقتصادي المطروح لـ"صفقة القرن"، ومهما كان كبيرا او سميكا او جذابا، لن يحجب الخذلان السياسي على الأرض، ولن يجعل الناس، وبالأخص الشباب ينأون، في ظل توفر نوع من الرخاء المفترض ومن المشاريع ومن فرص العمل، عن الانشغال بالقضايا الأساسية، التي هي قضايا وجود وحقوق وكرامة ومستقبل، وبالتالي من غير الممكن تصور ان قضايا أساسية مثل القدس، والأرض او الجزء من الأرض الذي سوف تتم إقامة مشاريع فيه او حتى الانسحاب منه، او قضايا المياه، او الأغوار، يمكن مبادلتها بمليارات من الدولارات المؤقتة، او برفاه أو بسيولة او بمشاريع وفرص عمل، وإذا لا يمكن تصور ذلك، فإن ما تحويه هذه الصفقة من الوعود الاقتصادية، او السلام الاقتصادي التي يتحدث عنه كوشنير وغيره، لا يمكن أن تحقق أي قبول أو تقدم في ظل التغاضي عن حقوق أساسية، ينظر إليها أولا الشباب الفلسطيني قبل غيره.