"صفـــقـــة ترامـــب" تـضـــع الفلسطيـنـيـين علـى مـفـترق طــرق

حجم الخط

بقلم: يوحنان تسوريف


تقع خطة ترامب للتسوية الإسرائيلية – الفلسطينية على الفلسطينيين في إحدى الفترات الأصعب في تاريخهم. فالقيادتان، قيادة أبو مازن في رام الله وقيادة «حماس» في قطاع غزة، تشكلان في السنوات الأخيرة هدفا لانتقاد جماهيري حاد، وتعانيان من فقدان الشعبية؛ إذ انهما فشلتا في تحقيق الأهداف التي وضعتاها لنفسيهما ولا تعرضان أهدافا بديلة. استراتيجية المفاوضات، التي تبناها أبو مازن – في ظل رفض الكفاح العنيف – وعلى أساسها انتخب للرئاسة في 2005، وان كانت عززت المكانة الدولية للفلسطينيين ودفعت الى الأمام بعضويتهم في محافل دولية مختلفة، إلا أنها لم تجدِ نفعا في الحفاظ على الزخم السياسي وتطوير البنى التحتية والتقدم الى التسوية الدائمة مع إسرائيل والاستقلال السياسي. اما «حماس» من جهتها، فقد فشلت هي الأخرى في مساعيها لدفع تحرير «أرض فلسطين» إلى الأمام من خلال المقاومة المسلحة، وفي الوقت الحالي، في ضوء أزمة البنى التحتية والإنسانية في القطاع، اضطرت لتعيد تعريف طبيعة النزاع مع إسرائيل لنشطائها وللجمهور الفلسطيني كله.
في الوسط، يوجد الجمهور، غير المكترث لدعوات القيادتين والذي لا يسارع إلى المشاركة في أعمال الاحتجاج الجماهيري التي تنظمها. واضطرت «حماس»، مؤخراً، لأن توقف المسيرات على طول جدار حدود القطاع بسبب كثرة الإصابات والقتلى والإحساس بالاستنفاد التام، بل تسارع الى تفريق المظاهرات التي لا تنسق معها. وحتى نشر خطة ترامب، لم تستطع السلطة الفلسطينية تجنيد الجماهير للاحتجاجات ضد الخطة. والارتفاع في حجم مظاهر العنف ومحاولات القيام بالعمليات، والذي سجل في الايام الاولى بعد نشر الخطة، ينبع أساسا من الاحتكاك بقوات الجيش الإسرائيلي، ولا يعكس بالضرورة الاستجابة لدعوة ابو مازن للخروج والاحتجاج. لا تنجح السلطة حاليا في منح الجمهور الغفير إحساسا بوجود تهديد حقيقي على مستقبل المشروع الوطني. وفي الوقت ذاته فإن الجمهور يطالب، على نحو ثابت، من قيادتيه، وهذا ما ينعكس في استطلاعات الرأي العام وفي الشبكات الاجتماعية، بالوحدة وبالمصالحة. فالإحساس العام هو أن الانقسام يضعف ويشل، ويبقي الشعب الفلسطيني بلا طريق ويفرض عليه حياة غير منظمة، تحت الاحتلال والحصار المتواصلين.
بعد نشر خطة ترامب انطلقت هذه الدعوة أيضا من كل منظمات المعارضة لقيادة رام الله، بما فيها «حماس»، «الجهاد الاسلامي»، الجبهتان الشعبية والديمقراطية، وغيرها. فتح وأبو مازن يتعاطيان بايجابية مع هذه الدعوة، وان كان دون إحساس بالإلحاح. وفور نشر خطة ترامب قال أبو مازن، انه أجرى مكالمة مع اسماعيل هنية، رئيس «حماس»، شدد على خطورة الوضع، ودعا كل المنظمات لأن تنطوي تحت جناح «م.ت.ف» كي تتصدى بنجاعة للتحديات التي تطرحها الخطة. اثنان من كبار مسؤولي «فتح»، روحي فتوح، من سكان رفح أصلا، وإسماعيل جبر، قائد قوات الأمن في الضفة سابقا، أرسلا إلى القطاع بدلا من وفد كان يفترض أن يمثل عموم فصائل «م.ت.ف»، ولكنه لم يتحقق أي تقارب بين التنظيمات. وفي خطاب ألقاه ابو مازن في مجلس الأمن في 11 شباط كرر تمسكه بالقرارات الدولية المتعلقة بالنزاع، بالمفاوضات، وبمكافحة «الارهاب» والعنف من كل نوع. ومع ذلك أشار بكل فخر الى الاحتجاج (الجماهيري، على حد قوله) الذي جرى في رام الله في لحظة الخطاب.
عائق مركزي أمام المصالحة الفلسطينية، بما في ذلك العمل المشترك ضد خطة القرن، سيكون موضوع التنسيق الأمني الإسرائيلي – الفلسطيني. وحسب التقارير (المتناقضة في بعض منها) من رام الله، ضمن أمور أخرى بعد اللقاء مع رئيسة الـ»سي.آي.ايه» الذي انعقد في 30 كانون الثاني، وبعد كلمة أبو مازن امام رؤساء أجهزة الأمن الفلسطينية، في 3 شباط، كان يخيل أن استمرار التنسيق الأمني منوط بعدم تنفيذ الخطة. ولكن، على حد قول ابو مازن في مجلس الامن وضعوا حدا لانعدام الوضوح. فقد أوضح بأنه مهما يكن، سيواصل الفلسطينيون مكافحة «الارهاب» وسيمتنعون عن العنف. هكذا لطف ابو مازن موقفه من الرئيس ترامب، إذ قال، ان الخطة ليست من صنع يديه، بل نتيجة نصائح غير جيدة تلقاها. في «الجهاد الاسلامي» تُفسر الأمور كإغلاق للسبيل في وجه المصالحة المحتملة. محمد الهندي، من كبار رجالات التنظيم، قال، انه اذا واصل ابو مازن «السير في هذه المتاهة (التنسيق الأمني ومكافحة «الارهاب»)، فإنه سيقودنا الى طريق مسدود بلا مخرج». وفي «حماس» أيضا يعتقدون بأن هذه الاقوال لا تنسجم مع المصالح الفلسطينية، ويتساءلون لماذا لا يأمر بخطوات عملية أكثر. أما أبو مازن من جهته، ففي خطاب القاه في مؤتمر وزراء الخارجية العرب في 2 شباط، ادعى بأن الفلسطينيين (م.ت.ف) وقعوا على 83 اتفاقا لمكافحة «الارهاب» مع الدول، بينها الولايات المتحدة، ومع أجسام دولية وان وقف التنسيق الامني يتعارض مع هذه التعهدات.
ولا يزال، في معسكر ابو مازن هناك من يعتقدون بأن رده ضعيف جداً، وانه لا يكفي الخطابات والقرارات التي اتخذت حتى الآن، بل ينبغي ترسيم طريق للجمهور لتجنيده وللإيضاح بأن الواقع تغير وان الجانب الفلسطيني لن يمر عن خطة ترامب مرور الكرام. قدورة فارس، مسؤول كبير في «فتح» ممن ليس مقربا من أبو مازن، يعتقد بأنه يجب الشروع بعصيان مدني هادئ، دون حمل السلاح ورشق الحجارة. وضمن أمور أخرى، يقترح على الجماهير الجلوس في المفترقات المركزية ووقف سير الحياة اليومية العادية – خطوة ستجبر إسرائيل على استخدام العنف، وهكذا يتم اجتذاب الاهتمام الدولي. محمد دحلان، رجل التيار الإصلاحي في «فتح» وخصم أبو مازن، يدعوه من مكان إقامته في اتحاد الإمارات للإعلان عن دولة فلسطينية في خطوط 1967، عاصمتها القدس، لإلغاء وثيقة الاعتراف المتبادل مع إسرائيل في 1994، ولوقف التنسيق الأمني. أما مطالبات المتحدثين من خارج معسكر «فتح» فتسير شوطا ابعد – العودة الى عصر ما قبل اتفاقات اوسلو، بما في ذلك الانسحاب من التعهدات التي اتخذتها «م.ت.ف» على نفسها في اطارها. وبرأيهم، فإن خطوة في هذا الاتجاه ستزيل كل العوائق التي تمنع المصالحة بين المنظمات في الساحة الفلسطينية.
غير أنه في هذه الاثناء، فإن دعوات بهذه الروح لا تشجع الاحتجاج الجماهيري، الذي يثير عاصفة دولية. فضلا عن ذلك، فإن احتمال المصالحة بين التنظيمات، والتي في اطارها تدير «فتح» و»حماس» كفاحا منسقا، لا يبدو حقيقيا اكثر مما في الماضي. ودون المصالحة، من المشكوك فيه أن يستجيب الجمهور لدعوات القيادات للمشاركة في الاحتجاج الجماهيري. وجاء في وسائل الاعلام العربية أن الدول العربية تؤيد علناً الموقف الفلسطيني، ولكن شريطة ألا يتوقف التنسيق الامني. كما يذكر ان أبو مازن نفسه – مثل زعماء عرب آخرين – شكاك تجاه كل جسم إسلامي سياسي، مثل «حماس». في نظره، فإن الارتباط بـ»حماس»، مثله كمثل الارتباط بين الدين والقومية، ومن شأنه أن يجعل من الصعب جدا اتخاذ أي قرار وطني يكون على جدول الاعمال.
في واقع عديد الاضطرابات، يبدو أنه لم يتبق للفلسطينيين غير العودة الى طرق الكفاح القديمة ومحاولة تكييفها مع الواقع المحلي، العربي والدولي الحالي. في الماضي، كما يذكر، بعد أن استنفد السلاح الناري ذاته، استخدم البعد الجماهيري على نطاق واسع، في محاولة لتحقيق عصيان مدني، لخلق تعاون بين التنظيمات وكذا الاحتكاك مع إسرائيل بهدف اجتذاب الانتباه.
اما الواقع الحالي فأكثر تعقيدا. وعليه، فرغم الاحاسيس بالغضب والاحباط سيواصل الحذر إملاء رد الفعل في عصر ابو مازن. وهذا قد يتميز بعدة مستويات:
- جهد لتجنيد الدعم الاقليمي والدولي الواسع قدر الامكان من اجل الايضاح للادارة الأميركية بأن الاسرة الدولية ترفض الخطة. بيان الاتحاد الاوروبي، الذي يحذر من مغبة اتخاذ إسرائيل خطوات من طرف واحد، وامكانية أن يعرض خطة بديلة لخطة ترامب، يعزز سير ابو مازن في هذا الاتجاه.
- الانتظار لإقامة حكومة جديدة في إسرائيل للوقوف عند طبيعتها. قادة قائمة أزرق ابيض، رغم تأييدهم العلني لخطة ترامب، يكثرون من الحديث عن المفاوضات كوسيلة لانقاذ الحوار الإسرائيلي – الفلسطيني من الطريق المسدود. كما أن سفيرة الولايات المتحدة الى الأمم المتحدة، دعت في النقاش في مجلس الأمن، والذي القى فيه أبو مازن خطابا، إسرائيل والفلسطينيين لاستئناف المفاوضات المباشرة، بإيضاحها ان خطة ترامب هي انطلاقة لخطوة وليست نهايتها.
- التحديد للضم الإسرائيلي لمناطق الضفة الغربية كخطوة محطمة للتعادل، اذا ما نفذت فستنفذ السلطة الفلسطينية التهديد بقطع العلاقات والتنسيق الأمني.
- السعي الى توحيد القوى – ليس بالضرورة مصالحة، بل بلورة رد موحد ومتفق عليه على الخطة. التخوف في رام الله هو من خراب ودمار يأتيان كنتيجة لرد إسرائيلي، اذا ما صعدت «حماس» كفاحها ضدها، وبالمقابل ثمة تخوف في «حماس» من كفاح انبطاحي، عديم الجدوى.
- احتجاجات جماهيرية – قدر الامكان دون استخدام السلاح، ولكن في ظل الاحتكاك مع الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، في محاولة لاجتذاب الانتباه الاعلامي والدولي.
اذا سمحت الولايات المتحدة لإسرائيل بضم مناطق في الضفة الغربية ولم تبدِ الدول العربية معارضة قاطعة لذلك، ووقف الاتحاد الاوروبي من جهته جانبا لم يعرض خطة خاصة به والافق السياسي بدا مغلقا، فمن شأن ابو مازن ان يأمر بتنفيذ قرارات المجلس الوطني والمجلس المركزي لـ»م.ت.ف»، والتي معناها فك الارتباط عن إسرائيل، وحل السلطة الفلسطينية في ظل اعادة الصلاحيات في القرارات الوطنية الى «م.ت.ف» نفسها. اذا حصل هذا، ستعمل «م.ت.ف» من منطقة رام الله او من خارج الضفة الغربية كي لا تقيد حركة رجالها.
ان خطر الفوضى الداخلية في هذه الحالة سيحتدم، وحرب الخلافة داخل «فتح» هي ايضا قد تتسارع، و»حماس» من جهتها ستسعى الى التأثير على تحديد القيادة التي ستحل محل أبو مازن. لا ينبغي استبعاد انه في هذه الحالة ستصبح الاحتجاجات الجماهيرية بأسلوب الانتفاضة الاولى واحداث الربيع العربي نمطا اساسيا للكفاح.
لهذه الاسباب على إسرائيل أن تمتنع قدر الامكان عن تنفيذ خطوات ضم من طرف واحد. من الافضل الاستناد الى خطة ترامب كإسناد للمطالب وكرافعة للحوار. الى جانب السعي الى اطلاق مفاوضات واسعة مع دول براغماتية في المنطقة ومع الفلسطينيين لغرض بلورة توافقات، على أساسها ترتب منظومة العلاقات.

عن «مباط عال»