من أين جاء العنف والتطرف؟

عبد الغني سلامة.jpg
حجم الخط

عبد الغني سلامة

العنف موجود منذ وُجد الإنسان، تاريخ الدول القديمة والحديثة مليء بالعنف، الأحزاب الدينية واليمينية في أميركا وأوروبا تزعم أنها تستمد العنف من تعاليم الكتاب المقدس، أحزاب الإسلام السياسي «الجهادية» تجد مبررات عنفها في تاريخ الدولة الإسلامية، ومن فتاوى الفقهاء المتشددين. ولكن، وبالرغم من ذلك، فإن الأيديولوجيات المتطرفة التي نعرفها الآن (الوطنية والطائفية واليمينية والعنصرية) وُلدت قبل قرون قليلة فقط، وبالذات في أوروبا في فترة تحولها «العنيف» من الحكم الثيوقراطي إلى الديمقراطية.
كانت أوروبا أثناء عملية تحولها إلى عصر الحداثة، تُعبّد الطريق وتمهّده لإنتاج المزيد من التطرف المتصل بالعنف على الدوام، وكانت حُجّتها في ممارسة ذلك العنف، هو الدفاع عن الأيديولوجيات، أو في سبيل نشرها. حتى المفكرين الليبراليين، أيدوا استخدام العنف، واعتبروه عملاً مبرراً. وكان هذا العنف يولّد ردود أفعال عنيفة، ويخلق شعوراً بالظلم، وبالتالي زيادة عمليات المقاومة السرية وأعمال الانتقام، ما يعني بالضرورة إنتاج التطرف. ومن المعروف أنه متى ما افتتحت دائرة العنف، لا يعود من السهولة السيطرة عليها، أو إيقافها.
العنف بحد ذاته ظاهرة اجتماعية قديمة؛ ولكنه كان في معظم الأحيان مجرد سلوك غريزي، أو ردة فعل تجاه حدث ما، بينما نجد أنّ التطرف يظل مقترنا بقناعات فكرية وأيديولوجية معينة، ينجم عنها سلوك عنيف.
تجادل هذه المقالة مقولة «أن التطرف المقترن بالعنف كانت أوروبا أحد أهم مصادره».
في الحملات الصليبية التي شنتها أوروبا على المشرق العربي في القرنين الثاني والثالث عشر، مارس الغزاة أقصى درجات العنف ضد أهل البلاد، واقترفوا مذابح مروعة. وبعد سقوط الأندلس، انتشرت محاكم التفتيش، في البداية ضد المسلمين واليهود، ثم شملت عموم القارة، وصارت موجهة ضد كل من تتهمه الكنيسة بالهرطقة، أو التجديف، أو السحر.
ازداد العنف بشكل خطير، بعد إصلاحات مارتن لوثر، حين انحرف أتباعه عن مساره الأصلي، فاستخدموا القوة والعنف، ضمن موجة من الحروب الدينية .. وكانت النتيجة تقسيم أوروبا طائفياً وسياسياً. كما شهدت أوروبا ذروة جديدة من العنف بعد الثورة الفرنسية، حيث لجأ الثوار للعنف والقسوة لتحقيق أهداف الثورة في الحرية والمساواة.
وهنا نلاحظ كيف تحولت الأفكار النبيلة إلى أيديولوجيا متطرفة، بمجرد أن آمن معتنقوها بالعنف، سواء من العامّة الذين قرؤوا الكتاب المقدس ووجدوه متناقضاً مع تعاليم الكنيسة، أم من المفكرين الذين آمنوا بضرورة العنف لنشرها أو للدفاع عنها، وحتى من خصومهم الذين مارسوا نفس الأساليب، ليتحول إيمان الجميع (وبشكل سريع) إلى أيديولوجيات متطرفة، الأمر الذي أدى إلى نشوب الحروب الدينية.
كما عرفت أوروبا حينها أشكالاً أُخرى من العنف الداخلي، مثل العنصرية، واضطهاد الأقليات الدينية، ومن أبرزها اضطهاد اليهود، وحصرهم في غيتوات، وتعريضهم لمذابح عديدة، وكانت ردة فعل بعض الجهات اليهودية الدعوة للتكتل وإنشاء الحركة الصهيونية، والتي ستكون نموذجاً للتطرف والعنف. وكان رد أوروبا على جرائمها بحق اليهود عبارة عن جريمة أخرى على حساب الشعب الفلسطيني، وهي دعم الحركة الصهيونية وإنشاء دولة إسرائيل، التي أصبحت مصدراً رئيساً للعنف والتطرف في المنطقة والعالم أجمع، وسبباً وجيهاً لتقوية الأصوات الراديكالية والعنيفة.
وكان لظهور النـزعة القومية في أوروبا في القرنين الثامن والتاسع عشر دور إضافي مهم في صناعة التطرف وتأجيجه، حيث بدا جلياً أن الحروب والعنف والتطرف قد زادت بشكل ملحوظ، وتحت حجة الحرية والحفاظ على الهوية الوطنية، ولا شك أن هناك أسباباً إضافية خلف تلك الحروب، أهمها البحث عن المصالح، والوضع السياسي والاقتصادي، والتقدم التكنولوجي، وخاصة في مجال صناعة الأسلحة.
وفي تلك الحقبة الاستعمارية، مارست الجيوش الأوروبية الغازية درجات عالية من العنف ضد سكان المستعمرات، الأمر الذي نتج عنه بالضرورة حركات المقاومة الشعبية، والتي كانت تُقمع بقسوة ووحشية وعمليات إبادة جماعية. ومن البديهي أن هذه الأجواء لن ينجم عنها سوى الأيديولوجيات المتطرفة، ومن كلا الجانبين.
وفي الحرب العالمية الأولى مارست الدول المتحاربة (وخاصة أوروبا) أشكالا مروعة من العنف والتطرف، وفي هذا السياق، ظهرت الأيديولوجيات المتطرفة كالفاشية والنازية، التي أتت كنتاج للأساليب الوحشية التي ظهرت في الحرب. بمعنى آخر، يمكننا القول بأن كافة أشكال التطرف، والأيديولوجيات العنيفة، والتعصب الوطني والمذهبي والعنصري الذي نراه اليوم في كافة بقاع العالم، بدأت مقدماتها بالظهور، ومعالمها بالتشكل في أثناء مراحل الصيرورة التاريخية التي مرت بها أوروبا في القرون القليلة الماضية.
وأوروبا مسؤولة أيضاً عن كل العنف الذي نراه الآن في أميركا: ففي البداية صدّرت أوروبا لصوصها ومغامريها إلى العالم الجديد، وأغلب هؤلاء كانوا يتسمون بالعنف، فأسسوا ثقافة «الكاوبوي».. ومن ثم أيد العديد من المفكرين الأوروبيين استخدام العنف والتطهير العرقي بحق الهنود الحمر. ثم دشن هؤلاء الأميركيون القادمون من أوروبا عصر العبودية الجديدة، حين جلبوا من أفريقيا ملايين العبيد، ضمن ظروف لا إنسانية بالغة القسوة.
وحتى بعد أن تم تحرير العبيد بعد الحرب الأهلية الأميركية، ظلّوا يعانون من التمييز العنصري لأجيال متواصلة، وهذه الممارسات العنصرية العنيفة من قبل «البيض» خَلقت في نفوس «السود» غضباً دفيناً، يخرج إلى السطح من خلال ممارساتهم العنيفة من حين لآخر. وقد أوجد مناخ العنصرية السائد آنذاك الحركات العنصرية والجماعات الدينية الأميركية ذات الأيديولوجية المتشددة، التي تؤمن بنقاء العنصر الأبيض، والتي كانت أسوأ ممارساتها التفجير الإرهابي في أوكلاهوما.
وأوروبا مسؤولة أيضا عن العنف في أفريقيا، بسبب احتلالها للعديد من الدول الأفريقية، وبسبب ممارساتها الوحشية ضد السكان، ونتيجة سياساتها العنصرية، ونهب خيراتها. وحتى بعد انسحابها منها، فقد تركت وراءها قنابل موقوتة وحدوداً ملتهبة ومشاكل متفاقمة وأنظمة فاسدة، وفوق هذا غذّت الصراعات الأهلية والطائفية، ودعمت الجماعات الموالية لها. وهذا ينسحب بصورة مشابهة على المستعمرات الآسيوية خاصة في الهند والبلدان العربية. وهي نفس الممارسات التي تبنّتها أميركا فيما بعد، في فيتنام وكوريا وبلدان أميركا اللاتينية والعراق. 
المفارقة، أن أوروبا هي التي قادت التحولات العميقة في بنية النظام الدولي، والتي أسست لمرحلة جديدة مختلفة، قوامها الديمقراطية وحقوق الإنسان والتعايش ونبذ الحروب.. لكن هذه التحولات لم تكتمل بعد، وعلى أوروبا تقع المسؤولية الأخلاقية في رفع الظلم عمن تسبب بظلمهم.