بيت لحم .. حين سقطت جميع المستشفيات إلا مستشفى الأمراض العقلية

حجم الخط

بقلم د. ناصر اللحام

 

 الآلاف من الأصدقاء من المحافظات الأخرى يتصلون بإلحاح كل دقيقة ويكتبون عبر التواصل الاجتماعي يريدون الاطمئنان علينا، أو الاطمئنان على أنفسهم . أو أن حب الفضول "يقتلهم" لكشف جوسق أسرار المدينة المحرمة التي تخلص منها الجميع في أول معركة فأصبحت (ووهان الشرق الأوسط)، يريدون معرفة أدق تفاصيل التفاصيل عن الوباء. لكنني لا أجيب على أي سؤال، وأنظر من زجاج النافذة فأرى الأمطار تنهمر بطريقة شديدة والغيوم تنخفض وتختفي الشمس . وكأنما تخلت عنا هي أيضا.

وأسال نفسي: هل نحن نقترب من يوم القيامة؟ أين اختفت كلاب الحي المزعجة ؟ أين إختفى بائع الكعك الذي كان ينادي كل يوم جمعة ؟ما هذا الصمت المرعب؟

نساء الحي أغلقن النوافذ وقد أضاف عليهن الحصار وإغلاق المدارس والجامعات مهمات إضافية شاقة. رجال الحي اعتمدوا الصمت كلغة للمرحلة .. قال لي صديقي من بئر السبع ( سلام البدوي بالعين ) .. وقد أراد أن يرفع من معنويات ويحذرني من المصافحة .آلمني ذلك أكثر .

و سألت زوجتي عن سبب غياب العصافير هذا الصباح عن الأشجار !!! هل نحن في حلم !!! ولم ننتظر إجابة من أحد .

على الهاتف رئيس الوزراء يطمئن على الأهل في بيت لحم . قلت له إننا في "الجنة" نأكل ونشرب من دون عمل ولا دراسة . والحكومة تصرف علينا وتحرسنا . ضحك يجاملني ولكن الخدعة لم تنطل عليه وكان يعرف حجم الألم والحصار وتمنى لنا السلامة..

آلمني أكثر حديثي مع صديقي يوسف المحمود حول ضرورة أن نلتزم ولا ننشر شيئا الا عن طريق وزارة الصحة .. قلت له: أخبرهم يا يوسف إن العدو هو فيروس كورونا وليس الصحفيين . وثقافته دائما تسعفني بفهم المعاني وحاول كشاعر أن يخفف عن صحفيين بيت لحم .

عدم الإجابة لم يشف غليل الأصدقاء ، ولم يشبع شغف المدن والدول الأخرى، يريدون المزيد من الأخبار : اكتب يا رجل . افتح البث المباشر . قل شيئا ، ماذا تعرف؟ ماذا تخفي؟

وزارة الصحة تمنعنا من النشر !! لم تعجبهم الإجابة.

نقابة الصحفيين هي أيضا أصدرت بيانا تطلب فيه من الصحفيين عدم نشر أي خبر الا عن طريق الجهات الرسمية !!! لا يرضون بالإجابة .

النائب العام هو الآخر أصدر تحذيرا يمنعنا من نشر الأخبار الا عن طريق الجهات الرسمية !! لم تعجبهم أيضا .

قل شيئا . كم عدد الإصابات في بيت لحم ؟ كيف تنتقل ؟

ارد عليهم : من يقول ومن يكتب ربما يتهم بالسبق الصحفي وأنه لا ينضبط لحالة الطوارئ!!!

أخرج بالسيارة والكمامة على فمي للتجوال في شوارع المدينة التي ولدت فيها ، فيقبض قلبي وتتكدر روحي .. اليوم انكسرت بيت لحم .. انكسر ظهرها وهرب الجميع عنها . مثل عنزة جرباء أفردها القطيع .

الاحتلال أغلق الحواجز والبوابات الحديدية . وبعض الأهالي يصرخون : ماذا نفعل ؟ كم عدد الإصابات ؟ لماذا تلبس كمامة ؟

أمشي في شوارعها فلا أعرفها ولا أعرفني . صمتي ليس حكمة بل من شدة القلق والخوف ... عشرة بالمئة فقط يخرجون من منازلهم هذا اليوم . وحين يصبح القلق أقوى من رئيس الوزراء ، والخوف أقوى من الرئيس ، والدعاء أقوى من الطب . تختلف أوجه الحياة .

كنيسة المهد ليس محاصرة مثل عام 2002 , وإنما وحيدة / بيت جالا ليست تطلق النار باتجاه مستوطنة جيلو مثل 2001 ولكنهم يحاصرونها .. وحين حاول سكانها الخروج عبر الحاجز العسكري زجرهم الجنود الإسرائيليين .. أحد العمال سأل الجندي الإسرائيلي : متى ترفعون عنا الحصار ؟ متى تفتحون الحاجز ؟ رد عليه الجندي : حين تفتحون المساجد والكنائس .

كم عدد الإصابات ؟ يسألنا الأهالي .

أقف عند مهبط الرئيس على جبل للدهيشة وبيت لحم وأقول لنفسي ( لم نعد نشاهد مروحيات الهيلوكبتر منذ حاصروا الزعيم عرفات) ..

على الهاتف صديق مناضل أمضى ردحا من الزمن في المقاومة وزنازين الاحتلال . أعرب عن غضبه بطريقة فريدة ( كورونا مرض تافه ، عيب أن يقتلنا . فلا هو سهم ولا رصاصة ولا سيف ولا رمح ولا حتى أفعى تلدغنا .. بيت لحم أقوى من هذا الفيروس التافه) .

لا إراديا توجهت بالسيارة نحو منطقة مستشفى الأمراض العقلية . كنا نفضلها كأجمل مكان للعب كرة القدم ونحن صغار لكثرة أشجارها ونظافة الحي .. وحدهم المرضى هناك لم يفقدوا عقولهم .

خطر ببالي أن أسأل أحد النزلاء داخل مستشفى الأمراض العقلية :

متى تفتح المساجد ؟ متى تقرع أجراس الفرح في بيت لحم؟