لم تهدأ حركات الاستفزاز التي يقوم بها المستوطنون والمتطرفون ومن معهم من جنود الاحتلال الإسرائيلي لاقتحام المسجد الأقصى المبارك والتي تعكس توجهاً حكومياً بالسعي إلى تهويد القدس وضمها تماماً واعتبارها عاصمة موحدة لإسرائيل.
هذه الدلالات كانت حاضرة منذ العام 1949 وما قبلها من سنوات طويلة، إلا أن مؤسس الدولة العبرية ديفيد بن غوريون كان أشد المتحمسين للسيطرة على القدس وتهويدها، حيث قال أواخر ذلك العام إنه "لا قيمة لليهود دون إسرائيل ولا قيمة لإسرائيل دون القدس ولا قيمة للقدس دون الهيكل".
وفي عام 1967 وخلال العدوان الإسرائيلي على عدد من الدول العربية بيومين تقريباً، وتحديداً في السابع من حزيران من ذلك العام، اقتحم الجنرال آنذاك مردخاي غور مع زمرة من جنوده المسجد الأقصى، ورفعوا العلم الإسرائيلي على قبة الصخرة.
وبعد ذلك التاريخ لم تتوقف الممارسات الإسرائيلية المستفزة تجاه الأقصى والمقدسات الإسلامية، تحت اعتبارات دينية يهودية تقدم تفسيرات مغلوطة ومشوهة للتاريخ تدعو لبناء الهيكل المزعوم في موقع المسجد الأقصى.
العدوان الإسرائيلي المتواصل على القدس والمقدسات الإسلامية لم يأتِ وليد الصدفة أو أنه فعل عشوائي منذ عشرات السنين، بل هو في جوهر الأمر يأتي في إطار رؤية الدولة العبرية لتمكين الشعب اليهودي في فلسطين المحتلة وجمعه على قلب رجل واحد.
على فترات زمنية طويلة، سنلاحظ أن هناك استهدافاً ممنهجاً لتهويد القدس وفرض السيادة والسيطرة الإسرائيلية الكاملة عليها، بواسطة المؤسسات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، إذ كثيراً ما اقتحم مسؤولون إسرائيليون المسجد الأقصى تحت حراسة مشددة من قبل جنودهم.
أصدق دليل على ذلك اقتحام أرئيل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق في الثامن والعشرين من أيلول 2000 المسجد الأقصى، الأمر الذي أدى إلى استفحال المواجهات بين الفلسطينيين وجنود الاحتلال وولد الشرارة التي خلقت الانتفاضة الثانية.
قبل ذلك بكثير واصلت كل من المؤسسة القضائية وكبار الحاخامات اليهود، استفزاز المشاعر الدينية وإحمائها في نفوس المتدينين عبر دعوتهم لاقتحام المسجد الأقصى بهدف ممارسة الشعائر الدينية هناك، ويذكر من ذلك قرار القاضية دوث أود من المحكمة المركزية الإسرائيلية في الثامن والعشرين من كانون الثاني 1976 السماح لليهود بالصلاة داخل الحرم القدسي الشريف.
أضف إلى ذلك ما سمي "بقانون القدس" الذي صادق عليه الكنيست الإسرائيلي في الثلاثين من تموز 1980 والذي قضى بجعل القدس عاصمة أبدية لإسرائيل، في تحدٍ صارخ لإرادة المجتمع الدولي.
من الناحية العملية عملت الدولة العبرية بكل قوتها وإمكاناتها على تغيير الوقائع الجغرافية والديموغرافية في القدس المحتلة، وبسنوات متواصلة من الاستيطان والإحلال، وصل عدد مستوطنيها في الضفة الغربية إلى حوالي نصف مليون شخص.
القدس الشرقية التي ظلت تُحارب عبر طمس المقدسات الإسلامية ومواصلة الحفريات تحت المسجد الأقصى، استهدفت بوتيرة متسارعة لإفراغ أهلها وانتزاعهم من منازلهم بسياسات عنصرية إسرائيلية تقوم على مصادرة هوياتهم وتدمير ممتلكاتهم.
اليوم تقول الإحصائيات، إن عدد المستوطنين في القدس الشرقية يزيد عن 200 ألف مستوطن، وهذا العدد يتزايد مع مرور الوقت ومعه تُبتلع الكثير من الأراضي الفلسطينية التي تهود هي الأخرى ويبنى فوقها وحدات استيطانية لإسكان المستوطنين فيها.
وما تفسير الاقتحامات المتكررة للمتطرفين اليهود وجنود الاحتلال للمسجد الأقصى إلا التأكيد على وجود نية مبيتة لدى حكومة الاحتلال في ضرورات فرض السيطرة على المقدسات الإسلامية إن عاجلاً أم آجلاً، خاصةً وأن الزيارات الرسمية الإسرائيلية تعد مؤشراً أيضاً على مدى الاهتمام الذي توليه الحكومة الإسرائيلية للقدس برمتها.
مؤخراً اقتحم وزير الزراعة الإسرائيلي المسجد الأقصى، تبعه قرار وزير الحرب موشيه يعالون اعتبار المرابطين والمرابطات الفلسطينيين في المسجد الأقصى تنظيماً محظوراً، مع تواصل عمليات الاقتحام الإسرائيلية ودعوة حزب الليكود المتطرف إلى اقتحام الأقصى.
كل هذه الدعوات والنزيف المستمر الذي يتعرض له الأقصى لم تستفز القيادات الفلسطينية لفعل شيء سريع يحرك المشاعر الوطنية والإسلامية عند الفلسطينيين، ولا يقصد هنا الجمهور الفلسطيني بل طرفي النزاع اللذين لم يعد يعنيهما شيئاً سوى مواصلة الانقسام الداخلي.
ويبدو أن حال قيادتنا ليس بأفضل من حال الأنظمة العربية، خصوصاً وأنها جزء من هذه الأنظمة وامتداد لسياسة الشعارات الرنانة والتنديدات التي لا تسمن ولا تغني من جوع، اللهم أن النخوة العربية تستدعي دعوة الاحتلال وقف ممارساته غير الرحيمة ضد الأقصى!!
إن الصمت الفلسطيني الدائم يجعل إسرائيل تستعجل تهويد الضفة الغربية والمقدسات الإسلامية في القدس المحتلة، ومثل هذه الاقتحامات الإسرائيلية المتكررة والمتسارعة في وتيرتها، تبعث رسائل تدعو للقلق من مستقبل القدس في ظل العجز الفلسطيني.
المطلوب حالياً هو التركيز على الممارسات العنصرية الإسرائيلية في كامل الضفة الغربية، وهذا يشمل وضع استراتيجية وطنية لإطلاق مقاومة سلمية مشروعة من قبل كافة أطياف العمل الوطني، تتركز في حركتها على رفض الاحتلال وسياسات الإحلالين الديموغرافي والجغرافي.
وهذا يعني اتخاذ قرارات وطنية على درجة عالية من المسؤولية، بعيداً عن المناكفات السياسية الانقسامية والتشمت بالآخر، وإذا كان من الصعوبة عقد مجلس وطني موحد بدورة عادية وترتيب البيت الفلسطيني، فليتأجل كل ذلك ولتستدعي الضرورة الوطنية ترتيب الأولويات واعتبار الأهم منها حالياً هو موضوع ما يجري من انتهاكات ضد الأقصى المبارك.
والمعنى، إننا لسنا بحاجة في هذه الأوقات العصيبة إلى صب الزيت على النار، والمهم الآن هو التركيز الفعلي والعمل على صد الاحتلال ووقف اقتحاماته ضد المسجد الأقصى، عبر دعوة الجميع للتفاعل الوطني ومقارعة الاحتلال ووقف مسلسل تهويد الضفة.
ثم إننا بحاجة إلى أن نبدأ من عندنا وبإمكانياتنا على تواضعها وليس الاستنجاد بالآخر، لأن أكثر ما يقوم به هذا الآخر هو التنديد والاستنكار، لكن حين يكون هناك رد فعل فلسطيني قوي وحاشد ضد الاحتلال وأذرعه في القدس، فلعل ذلك يدعو مختلف الأطراف الدولية للتدخل من أجل عدم استفحال الصراع.
أما ألا يجد المقدسيون من يدعمهم وسط دعوات شكلية تستهدف المطالبة "بعمليات استشهادية"، وأخرى تعتبر إجراءات الاحتلال "باطلة وملغية"، فكل ذلك بصريح العبارة "حكي فاضي"، طالما أنه غير مقرون برد عملي، لأن الفعل يحتاج إلى رد فعل وليس كلام نواعم، وإسرائيل لا تفهم سوى لغة الفعل وأخواته ولكماته.
كفى الفلسطينيين مكابرة وكفى العرب تجاهلا
15 أكتوبر 2024