أبعاد التدخل التركي في إدلب: أطماع عثمانية ام فزعة إنسانية؟!

حجم الخط

بقلم د. أحمد يوسف

 

 أثار التدخل التركي العسكري في إدلب موجة من التعليقات والتحليلات بين النخب في العالمين العربي والاسلامي،  فمن مؤيد لهذا التوجه؛ لأن فيه حقن لدماء المسلمين الذين يتعرضون لقصف يومي يستهدف وجودهم على أرضهم، بدعوة محاربة الإرهاب، وأيضاً لوقف حالة الهجرة  والنزوح التي تدفع ثمنها تركيا علي حساب أمنها واستقرارها السياسي،  وهي قضية أصبح حزب العادلة والتنمية يعاني من تداعياتها وكلفتها الكبيرة مادياً لإيواء أكثر من 3.6 مليون لاجئ سوري ينتشرون في معظم المدن التركية الكبيرة وخاصة إسطنبول، مما أدى لخسارة لم تكن متوقعة لحزب العدالة والتنمية في عدد من البلديات المهمة في الانتخابات السابقة، بسبب تنامي موجة الغضب الشعبي، جراء هؤلاء المهاجرين بهذه الأعداد الكبيرة، والتي باتت تهدد بشكل جدي مستقبل الحزب، كما أنها تشكل استنزافاً لميزانية الدولة، حيث كلَّفت عملية إيواء هؤلاء اللاجئين وتوفير مستلزمات الحد الأدنى من العيش لهم أكثر من 40 مليار دولار، والحبل على الجرَّار!!

إن الموقف التركي كان واضحاً منذ البداية، حيث أشارت كل المستويات الرسمية في تصريحاتها بأنه ليس لتركيا أطماع بالأراضي السورية، وأنها تتطلع لحماية حدودها من الحركات الإرهابية الكردية، كما أنها ترنو إلى استقرار سياسي في سوريا يتمكن بموجبه ملايين المهاجرين والنازحين بالعودة إلى بلادهم وديارهم.

عندما تحركت جموع السوريين خلال موجة الربيع العربي حاولت تركيا تقديم النصيحة للنظام في سوريا بأهمية  إجراء إصلاحات سياسية، لتجاوز موجة الغضب العارمة، وحقناً لدماء الشعب الذي كان يتطلع للتغيير.. لكن للأسف كان قرار النظام هو اللجوء للخيار الأمني/العسكري، والذي انتهى كما نشاهد اليوم إلى دمار سوريا بالشكل الذي لم يسبق له مثيلٌ في التلريخ المعاصر، إلا خلال الحرب العالمية الثانية، والذي تمثل بسياسة الأرض المحروقة والتطهير العرقي واستدعاء القوة الاجنبية للحفاظ على كُرسي الحكم، ولتذهب سوريا بكل عمارتها وتاريخها وشعبها إلى الجحيم!!

للأسف؛ كان ظهور تنظيم الدولة (داعش) كارثة على الثورة في سوريا، واستدعى تدخلاً دولياً واسعاً أسهم في تعزيز جرائم النظام خارج سياق الحرب على الإرهاب، وإن كان توصيف كل ما يحدث من مجازر متكررة  يجري بذريعة هذه الحرب.

إن الذي كان يقلق تركيا ويدفعها للتدخل هو التنامي العسكري للحركات الكردية الانفصالية في سوريا، والذي يعني في المشهد الأمني التركي هو التواصل بين هذه الجيوب الانفصالية في سوريا مع امتداداتها في كل من العراق وتركيا، وهذا مسألة مهددة للأمن القومي التركي بشكل كبير.

احتضنت تركيا أردوغان ملايين اللاجئين، وعملت على تأمين حدودها من داخل الجانب السوري، ونجحت في تحرير حدودها عبر المنطقة التي انتزعتها باسم عملية "نبع السلام"،

والتي من المخطط لها مستقبلا ً احتضان قرابة مليون سوري من العائدين من مخيمات الايواء على الجانب التركي من الحدود.

كانت إدلب أحد مناطق خفض التصعيد، والتي حسب "اتفاقية تسوشي" أن تبقى سماؤها آمنة، وأن لا تنفتح جراحها في موجة جديدة من المجازر وأشكال التهجير والنزوح لحسابات عقيمة للنظام في سوريا. لذلك، جاء التدخل التركي العسكري بقوة لمنع ذلك من الحدوث. لقد طفح الكيل، حيث غدت تركيا ونظامها السياسي مهددين إذا ما تمَّ ذلك، فبدل أن تبدأ عودة اللاجئين وإعادة ترتيب وبناء ما دمرته الحرب، تنحدر الأمور باتجاه كارثة إنسانية جديدة، وهذا أمر لا يمكن السكوت عليه، وأن على تركيا سرعة التحرك لأخذ زمام الأمور بيدها، وأن لا تترك لهذه الموجة من اللاجئين أية تأثيرات سلبية علي أمنها واستقرارها ومستقبل نظامها السياسي.

للأسف؛ لم يتحرك الأمريكيون لدعم الموقف التركي، وكذلك فعل الأوروبيون مثلهم، حيث تركوا الميدان لأردوغان للغوص أكثر في المستنقع السوري، والاقتراب إلى حدِّ المواجة العسكرية مع روسيا من ناحية، واحتمالية خسارة علاقته مع إيران من ناحية أخرى.

من هنا جاءت عملية فتح الحدود التركية لمن يريد الوصول إلى أوروبا؛ باعتبار أن هذه قضية إنسانية يكفلها القانون الدولي، ولا ملامة تتحملها تركيا جراء ذلك.

لا شك بأن هذا التحرك التركي له دوافع سياسية، وهو أن تتحمل أوروبا جزءاً من هذه الأعباء المالية الهائلة علي تركيا، وأن تتحرك كذلك لدعم قرار الأمم المتحدة لفرض منطقة آمنة  تضع حداً لهجرة المزيد من السوريين باتجاه تركيا، وهي مسالة يمكن إنجازها إذا ما تحرك الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو بغطاء وتأييد من أمريكا والأمم المتحدة.

القوميون العرب واللعب علي وتر العثمانية !!

عندما هبَّت رياح الربيع العربي قبل عشر سنوات مضت، تفاعلت تركيا مع الحدث؛ باعتبار ذلك فرصة للتغيير والإصلاح سليماً في العالم العربي، وكان الكل يبارك ذلك ويمتدح المواقف الإنسانية والأخلاقية لتركيا، بل إن الإسلاميين كانوا ينظرون للسيد أرودغان بمثابة الزعيم المُخلِّص لهذه الامة من شرور الطغاة والحكام المستبدين، والفارس المعقود على نواصيه إعادة الهيبة للأمة الإسلامية والعربية، واستعادة مكانتها تحت الشمس.

ومع تنامي حالة التآمر على هذا الربيع وفجره الذي كان يلوح في الأفق، باصطفاف بعض الأنظمة الملكية التي كانت تخشى تطلعات شعوبها نحو التغيير، انكسرت – للأسف - موجة "الربيع العربي" وتحولت لخريف ساخن، وأُطلق العنان لليساريين والليبراليين العلمانيين وبعض الجهات السلفية للتشكيك بالدور التركي وطموحات الرئيس أردوغان العثمانية!!

تاريخياً، تعودت الشعوب العربية عند شعورها بالاستضعاف أن تصرخ: أين المسلمون؟ وعندما استجاب أردوغان للنداء، وحاول دعم هذه التحركات المطالبة بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، تداعت أقلام متحاملة لاجهاض هذه الهبَّة والفزعة الأخلاقية، وأخذت في شيطنة أردوغان واتهامه بأنه يحمل طموحات (استعمارية) لاستعادة مجد الخلافة العثمانية بالمنطقة العربية من جديد!!

إن قراءة علمية أمينة للموقف التركي وللسيد رجب طيب أردوغان ومعرفتنا المتقدمة بالساحة التركية، تجعلنا لا نشطح بعيداً في أفكارنا، فتركيا بلد إسلامي عريق، وهي قوة عسكرية نعتز بإنجازاتها، كما أنها قوة اقتصادية هائلة وتجربة حضارية هي فخر لأمتنا الإسلامية والعربية.. وإذا ما أجرينا مقارنة اليوم بين تركيا ودول عربية وإسلامية أخرى، فإننا نجدها تتصدر في كل شئ، في حين أن الآخرين استمرؤا حالة التبعية والقابلية الإستعماريه.

ندعو الله أن يستمر الهدوء والاستقرار في إدلب، وان يعود اللاجئون السوريون إلى بلادهم، وأن تنشغل سوريا بإعادة بنائها السياسي والاجتماعي والعمراني، وأن يجتمع شمل العرب أجمعين، فليس لتركيا أردوغان من طموحات أكتر من رؤية هذه الأمة قوية موحدة، وخياراتها لصالح شعوبها، وأن تستعيد نبضها الحضاري وحسها الإسلامي تجاه قضية فلسطين؛ قضية العرب والمسلمين الأولى.

أن تركيا أردوغان هي شريان أمل لهذه الأمة، وليس قوة استعمارية كي تُسنَّ لها رماح النقد والتجريح !!

أفيقوا يا بقاية أمة كانت عظيمة..