محكمة لاهاي، فقط، تستطيع وقف الجرائم الإسرائيلية ضد الفلسطينيين

حجم الخط

بقلم: حجاي العاد


في صيف العام 2014 قتلنا في قطاع غزة، بقصف جراحي وتجميلي، أكثر من 500 طفل فلسطيني. رئيس الحكومة في حينه، بنيامين نتنياهو، ورئيس الاركان في تلك الفترة، بني غانتس، يقفان، الآن، على رأس الحزبين الكبيرين في الدولة.
في خريف العام 2017 أعلن وزير الدفاع في حينه، افيغدور ليبرمان، نيته بأن يدمر كليا تجمع الخان الأحمر، بما في ذلك المدرسة التي توجد في المكان، وأكواخ الصفيح التي تشكل بيوت اكثر من ثلاثين عائلة، جميعها فلسطينية بالطبع. ايضا ليبرمان هو رئيس حزب إسرائيل بيتنا. قضاة محكمة العدل العليا عادوا وأكدوا شرعية "الهدم".
في شتاء 2020 نشر الرئيس دونالد ترامب خطته للاعتراف الأميركي بـ "إسرائيل الكبرى"، التي ستمتد على جميع الاراضي التي تقع بين النهر والبحر، دون اعطاء الجنسية لملايين الفلسطينيين أو حقوق إنسان أو حق التصويت. تملي الخطة الخضوع المطلق على الفلسطينيين، وفي الوقت ذاته تكشف بشكل واضح طموح إسرائيل لمواصلة هندسة الوضع الديمغرافي في هذا الفضاء كما تشاء، من وادي عارة مروراً بالأحياء العربية في القدس التي تقع خلف جدار الفصل وانتهاء بآخر القرى في منطقة ج. وماذا بشأن ليبرمان وغانتس؟ لقد باركا هذه الخطوة.
كم هو عدد الأطفال الذين سيقتلون في غزة في الصيف القادم؟ وكم هو عدد التجمعات الفلسطينية الأخرى التي سندمرها في السنوات القريبة القادمة؟ وكيف ستظهر الحياة في ظل نظام يسعى الى تخليد التفوق على شعب آخر؟ وما الذي نحن مستعدون لفعله من أجل القول لكل ذلك: كفى؟
الأطفال في غزة "لم يموتوا". فشخص ما خطط كيف سيتم قصف المنازل من الجو، وشخص ما قرر بأن هذا "قانوني"، وشخص ما أعطى الأمر، وبعد محو عائلة اخرى مع أطفالها من العالم فإن شخصاً ما طمس وأخفى الأمر حتى قدوم القصف القادم. والجرافات، التي تقوم بهدم المنازل في "ارجاء المناطق السيادية"، لا تسير من تلقاء نفسها. فشخص ما خلق جهاز تخطيط هدفه عدم المصادقة على بناء الفلسطينيين، وشخص ما قرر أن هذا "قانوني"، وشخص ما أصدر أوامر الهدم، وشخص ما أمر بتنفيذها. ونظام الحكم، الذي هدفه تقدم شعب على حساب سحق شعب آخر، لم يقم بخلق نفسه. فهناك من يقف على رأسه ويقوده ويخرجه من حيز القوة الى حيز الفعل.
ومن أجل التمكين من حدوث ذلك من الجدير إسكات من يعارض. لذلك، سمّى سفير إسرائيل في الأمم المتحدة جهود الفلسطينيين للعمل ضد خطة ترامب "ارهابا دبلوماسيا"؛ لأن أي محاولة فلسطينية للمطالبة بالحقوق أو الحرية يجب أن تكون مؤطرة كـ "ارهاب". لذلك، سارع نتنياهو الى الاعلان عن "أحكام لاسامية" للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي. لأن أي خطوة دولية يجب أن تكون معرفة كلاسامية. لذلك، منظمات حقوق الانسان الإسرائيلية، التي تعمل ضد الاحتلال، يجب أن يتم إظهارها كخائنة وغير مخلصة.
صحيح أننا غير مخلصين، غير مخلصين لنظام يؤيد الاحتلال والقمع والعنف واهانة شعب آخر، ونقوم بخيانة فكرة الابرتهايد ونسعى الى تقويض مستقبل الظلم، لكن مسألة الولاء موضوعة الآن على كفة الميزان: لأي قيم نحن مخلصون؟
نحن مخلصون لحقوق الإنسان والمساواة والعدل والحرية. مخلصون لمحاولة بناء مستقبل بين نهر الاردن والبحر يقوم على هذه القيم. هذا الاخلاص قادنا الى مناشدة مجلس الامن من أجل القيام بعملية دولية تؤدي الى انهاء الاحتلال. وهذا الاخلاص ذاته جعلنا نطلب من الجنود الإسرائيليين رفض الأوامر غير القانونية لإطلاق النار من بعيد على آلاف المتظاهرين الفلسطينيين على حدود القطاع. وهو الاخلاص ذاته الذي يوجه الآن الانظار الى السلطة القانونية الدولية الوحيدة التي يمكنها التعامل مع الوضع في "المناطق"، محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، الى جانب تأييدنا لصلاحية المحكمة في البدء في التحقيق وتقديم تقرير عن جرائم الحرب.
وإذا لم تتم محاكمة أحد عن ذلك فلن يتغير أي شيء. وهذا ما تسعى إليه الحكومة بالضبط. ولكن اذا تقرر أن هناك سلطة ستبدأ في التحقيق في لاهاي، عندها ربما ستضطر الدولة أخيرا الى البدء في الأخذ في الحسبان إمكانية أنه سيكون للجرائم التي ترتكبها ضد الفلسطينيين ثمن.
رغم أن الإجراء الذي يجري في الوقت الحالي في لاهاي يقتصر على مسألة الصلاحية القضائية، إلا أن النخبة السياسية في الدولة موحدة ضد هذا الإجراء، بما يشبه الطريقة التي هي موحدة في دعمها لخطة ترامب. نتنياهو نفسه، كما قلنا، سارع الى تشبيه إجراءات المحكمة بالأحكام اللاسامية. وواصل الدعوة الى فرض عقوبات على المحكمة وعلى جميع ممثليها والمدعين العامين فيها. وقام قبل بضعة أيام بارسال وفد الى واشنطن للاتفاق مع ادارة ترامب حول نضال مشترك ضد المحكمة. وخطوات الحكومة هذه في هذه المرحلة تكشف أنه في جذور المعارضة في إسرائيل لا توجد أي مصلحة نظرية في مسائل السلطة، بل اعتراض جوهري على القيم التي تهدف محكمة الجنايات الدولية الى حمايتها، قيم تريد إسرائيل مواصلة سحقها، ومواصلة التمتع، كالعادة، بحصانة مطلقة بخصوص أفعالها في المناطق.
في كانون الأول، قبل بضع ساعات على نشر بيان المدعية العامة للمحكمة بأنها توصلت الى استنتاج بأنه يوجد أساس لفتح تحقيق، نشر المستشار القانوني موقفه بشأن ذلك. وعلى اعتبار أن موقفه يمثل الحكومة، فهناك أهمية كبيرة للكشف المدحوض لموقفه الذي ترتكز ادعاءاته على اقتباسات جزئية ومتلعثمة تم إخراجها عن سياقها، وتجاهل أوامر القانون الدولي، ووصف لا أساس له من الصحة للواقع.
نعيش في عالم فيه الاحتمالات الفعالة للدفاع عن حقوق الإنسان آخذة في التقلص. لا توجد لدينا أوهام. المحكمة في لاهاي تقترح في أفضل الحالات درجة محدودة من العدالة المتأخرة. ولكن النظام في إسرائيل معتاد على وضع التنكر التام لواقع فيه يمكن أن نستخدم ضد الفلسطينيين كل شيء تقريبا دون دفع أي ثمن عن ذلك. وحتى القليل الذي يمكن أن يرضي المحكمة يمكن أن يجعل إسرائيل تعيد التفكير في المسار. حتى قبل قرار المدعية العامة في كانون الأول، امتنعت إسرائيل عن هدم الخان الأحمر بسبب الخوف من لاهاي، مثلما أعلن وزير الخارجية، إسرائيل كاتس. ويمكن التقدير بأن واقعا جديدا تكون فيه إمكانية لتقديم الحساب يمكن أن يشكل عاملا كابحا ومهما لأفعال إسرائيل.
في المحكمة في لاهاي سيقررون في الأشهر القريبة القادمة هل توجد للمحكمة صلاحيات اقليمية على الوضع في المناطق، وهذه الصلاحية توجد منذ انضمام فلسطين لميثاق روما (وسلسلة طويلة من المواثيق الاخرى) كما قررت المدعية العامة. ولا يمكن التقليل من اهمية هذا القرار الذي يبدو أنه إجرائي فقط. اذا قرر القضاة تبني موقف المدعية العامة فسيتم فتح تحقيق. ولكن إذا تقرر شيء آخر فسيتم إغلاق التحقيق قبل أن يبدأ. هذا الأمر سيكون بمثابة ضوء أخضر لإسرائيل في العالم الذي تقريبا لم تبق فيه أضواء حمراء. وبقي فقط الأمل بأن تتبنى المحكمة موقف المدعية العامة والقول "توجد صلاحيات وسيكون هناك تحقيق".

 عن "هآرتس"